سجن طرطوس: "مقبرة جيدة لمن يستحقون الموت"
مازال استعصاء معتقلي سجن طرطوس المركزي قائماً، ولكن المعلومات عن أوضاع المُعتقلين تبدو ضبابية. فالسجن يضم مئات معتقلي الرأي والموقوفين والمغيبين قسراً من المدنيين والنشطاء، ومعظمهم من سُنّة طرطوس وقراها. النظام تمكّن من منع أخبار الاستعصاء من الخروج إلى الإعلام، أو تحكم بما يريد خروجه من أنباء، وسط توقع ارتكابه جرائم جديدة بحق المُغيّبين فيه.
قد يكون سجن طرطوس المركزي، أحد أسوأ مراكز الاعتقال في سوريا، وفق ما يُمليه الواقع الطائفي؛ فكلما ازداد ارتباط الدولة ومؤسساتها القمعية بالبيئة الاجتماعية الموالية للنظام، يكون الهامش المدني في حالٍ أكثر سوءاً وآلماً. فالقمع هنا متحرر من كل قيد.
قد تكون البداية الأفضل لفهم عملية الاعتقال في سجن طرطوس، في فيديو نُشِرَ نهاية العام 2012، وظهرت فيه نساء ورجال من مدينة طرطوس، يصعدون إلى حافلة نقل داخلي فيها معتقلين معصوبي العيون. الأهالي الصاعدون إلى الحافلة يقومون بضرب المعتقلين بأحذيتهم، تحت أنظار رجال الأمن والشرطة. هذا المشهد لم يُصنع، فكثيراً ما روى معتقلو بانياس والقرى السُنية حول مدينة طرطوس، حكايا عن أفعال مماثلة: يتوقف الباص وسط المدينة، ويُسمح للأهالي بتفريغ عنفهم على المعتقلين. هذا الإبدال العنفي، هو سماح النظام الأمني لمواليه العاديين، بفرصة الانتقام من معارضيه؛ ضربهم وشتمهم، والبصاق عليهم وتعنيفهم.
ولا يتمكن المعتقلون وأغلبهم ناشطون مدنيون من معرفة وجوه معنفيهم، لكن اللهجة الساحلية للضاربين، تكفي لإشعال أحقاد لا متناهية في نفوس المُعنّفين. إبدال الخوف الداخلي للعلويين، بالعنف المباشر، فرصة يمنحها النظام دوماً لمواليه من العلويين، كطريقة عاطفية لمطابقة سلوك مؤسساته العنفيه مع حواضنه الشعبية. إبدال يتواطؤ فيه الطرفان؛ النظام ومواليه، في اقتراف فعل الذنب، والمكابرة عليه.
بين العامين 2013 و2014، عَرَفَ سجن طرطوس زيارات مرعبة لابن هلال الأسد، سليمان، الذي خصص خمسة أيام في الأسبوع لزيارة السجون في الساحل السوري. سليمان كان يزور سجن طرطوس المركزي يوماً واحداً في الأسبوع، بما يكفي لقتله شاباً أو اثنين تحت التعذيب.
في شهادة حصلت عليها "المدن" من عائلة في بانياس، اعتقل أربعة من أبنائها، قال أحد الشباب إن أخيه قُتل على يد سليمان الأسد، وإن جلسات التعذيب كان تتم بحضور مدير السجن أحياناً. الزيارات الليلية سمع فيها الساحل كُله. وقد أوقفها هلال الأسد، قبل موته بفترة، على خلفية قتل سليمان تحت التعذيب لأكثر من معتقل في فرع "الأمن العسكري" في اللاذقية.
يُشاع في سوريا أن الانتقال من معتقلات فروع الأمن إلى السجن المدني، هو كالخروج إلى الجنة. فالسجون المدنية ترضخ لحال الواقع الاجتماعي، وقد يسود التراحم بين المساجين. وأفراد الشرطة أكثر رحمة ورأفة، والفساد داخل السجون يُمكّنُ المساجين من تأمين متطلبات أساسية للبقاء لكنها مستحيلة داخل معتقلات فروع الأمن. وفي الحد الأدنى، قد يلجأ المعتقل إلى القانون، ويتمكن من تكليف محامٍ ليمثله أمام المحكمة.
سجن طرطوس، ليس على هذا الحال الشائع، بل هو فرع أمني أكبر حجماً. وفي طرطوس لا يمكن معرفة شيء عن سجنها بشكل جيد، فأغلب أهالي المدينة العلويين يُصوّرون السجن بوصفه "مقبرة جيدة لمن يستحقون الموت".
في الآونة الأخيرة، وصلت أصوات من داخل السجن، عن وجود اضطرابات فيه، سببها العنف الذي يتعرض له المساجين. عنف لا يتوقف داخل سجن مدني، ويطال خصوصاً المعتقلين السياسيين. فأولئك المعتقلون لا يتم تحويلهم إلى المحكمة بعد انتهاء الاستجوابات في فروع الأمن، ووصولهم الى السجن المدني، ولا يتوقف تعذيبهم. هذا الاستثناء في سجن طرطوس فيه من الرغبة أكثر ما فيه من الاضطرار. وفيه من الموافقة الأهلية للعلويين، أكثر ما فيه من رفضهم هذه الظاهرة. وقد يُجيب العاديون من الناس، من أبناء البيئة الموالية، بأن "على الدولة أن تحرق السجن، وتقتل المعتقلين أو تعدمهم".
الأخبار عن الاستعصاء داخل السجن تجعل توتر موالي النظام في طرطوس أكثر وضوحاً وقسوة. وتدور ردود أفعالهم بمعظمها على الشكل الآتي: "ليقتلهم.. يحرقهم، ويدفنهم". فالمُعتَقل هو "إرهابي"، ولو كان ما فعله ضد النظام هو كتابة منشور في "فايسبوك". قد يكون منشأ الميل للعنف هو خوف هائل، إلا أن استحضار النظام له بكثافة بعد الثورة السورية، أعطاه قيمة مركزية صارت ملحقة بالشخصية العلوية ضد الآخر السُني.
فحرق المعارضة وقتلهم وتعذيبهم، عبارات تدلُ على الرغبة بالتخلص من عقدة الذنب، ولعنة الخوف. التخلص الجسدي من الآخر، بات المتاح الفعلي للتخلص من الخوف.
وسط ذلك الصمت، لمعرفة أخبار سجن طرطوس عليك الذهاب إلى الريف القريب من المدينة، الريف السُني تحديداً، في قرى مدينة بانياس. الخارجون من السجن، يحكون عن الغرف التي لا تتوقف عن استقبال المعتقلين السياسيين، وتعريضهم لـ"حفلات" العنف. ومصطلح "الحفلة" رائج شعبياً، لإخفاء التعذيب، وإحلال السخرية محل الألم.
أقارب أحد المعتقلين في السجن، قالوا إن لا عون لابنهم في الداخل، فمن المستحيل اختراق السجن عبر الفساد. هنا تنتصر العصبية على المال، فغالبية حراس السجن وموظفيه وقيادته من العلويين، ما تجعله عصياً على التدخلات الخارجية. فمن غير اللائق والمشرف للسجانيين رحمة المعارضين أو التوقف عن الانتقام منهم.
ويتعرض "النزلاء" السياسيون لمعاملة انتقامية ثأرية لا تتوقف، ومحاولات الإضراب التي يُسمع عنها لا صدى خارجياً لها، لأن البيئة الأهلية قد تُبرر قتل المُعتقلين. والأفضل أن لا نسأل من يريدونه مقبرة لمن فيه، عن أوضاع المعتقلين في سجن طرطوس المركزي. وأهالي الريف لا يعرفون شيئاً عن أبنائهم. وما يصل من أخبار من داخل السجن إلى الخارج، هو اختصار هائل لما يحدث فيه. فالسجن فرع أمن موسع، وكل الحكايا قابلة للتصديق.
هذا إذا لم يكن النظام وموالوه، يُحبذون ما يتسرب من اشاعات عن السجن. فذلك يجعل العنف مستساغاً، والجرائم التي تقع ضرورة لتفريغ عنفٍ لا يهدأ تجاه الآخر.
ما يخرج من السجن مُفجعٌ، لكن ما يفهمه الموالون من التعذيب: "استحقاق إلهي لعدو عليه أن يتعذب، وإن تمرد يجب أن يُحرق". لذا، فأهالي السجناء لا يعرفون شيئاً عن أبنائهم، والإشاعات تكفي ليظنوا أن أولادهم بحكم القتلى.