روسيا تستكمل تطويع الأسد
ليس من قبيل المصادفة ان تسرّب موسكو، في اسبوع واحد، وثيقتين تتعلقان بالشأن السوري. رسالة الكرملين الى العالم، من خلال الوثيقتين، هي أن روسيا تمسك بالرئيس السوري بشّار الأسد تماماً، وأن لروسيا حصة وازنة في الوقت نفسه بين صفوف معارضيه، ما يقدم لموسكو بدائل عن الأسد لو رأت يوماً أن مصلحتها تقضي باستبداله من الحكم.
ومن نافل القول انه صار مؤكدا ان الأسد، الذي يعتقد انه ورث عن ابيه الحذاقة السياسية التي تسمح له بالتلاعب على القوى العظمى وتأمين مصالحه من خلال تضارب مصالحها، لا يرقى الى مستوى أبيه، وبدلاً من ان يتلاعب هو بالقوى الاقليمية والعالمية، صارت هي تتلاعب به وبنظامه، وتقوّض سيادته.
كما صار مؤكداً أيضاً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعمره في السياسة من عمر بشار الأسد، هو أحد اكثر اللاعبين الدوليين حذاقة، وهو تفوق على خصومه في الغرب، واظهر هيمنة على ايران، ولا شك انه يأخذ من الأسد كثيراً.. أكثر مما يعطيه.
الوثيقة الأولى التي سربتها موسكو، وترجمتها صحيفة "واشنطن بوست" الاميركية، تضمنت نص الاتفاقية بين روسيا وحكومة الرئيس السوري بشّار الأسد حول التدخل العسكري الروسي في سوريا، وهي اتفاقية وقع عليها وزيرا دفاع الدولتين في ٢٦ آب/أغسطس الماضي.
وتظهر الاتفاقية ان الأسد وافق تماماً على ما رفضه رئيسا حكومة العراق المتعاقبان نوري المالكي وحيدر العبادي، بتحريض من طهران، لناحية عدم الموافقة على بقاء جنود اميركيين على الاراضي العراقية بعد تاريخ انسحاب القوات الاميركية، والذي تم نهاية ٢٠١٢. وقتذاك، حاولت الولايات المتحدة انتزاع بند وحيد لإبقاء أي عدد من القوات الاميركية تتفق عليه مع بغداد، وهذا البند يقضي بمنح بغداد حصانة ديبلوماسية للجنود الاميركيين في العراق، ما يمنع الحكومة العراقية من محاسبتهم أمام القضاء العراقي أو حتى مقاضاتهم أمام محاكم اميركية في حال ثبت اعتداؤهم على عراقيين.
ما رفضه المالكي والعبادي لتحصين سيادة العراق منحه الأسد لروسيا، حسب الاتفاق الموقّع بين البلدين، والذي منح نظام الأسد بموجبه قاعدة حميميم الجوية للقوات الروسية، ومنح الروس حق إدخال وإخراج ما يشاؤون إلى البلاد من دون تفتيش سوري، أو رسوم جمركية أو ضرائب، كما منح الأسد الجنود الروس حصانة ديبلوماسية تتمثل بتخليه عن أي بنود محاسبة ضد اي جندي روسي قد يظهر عدم انضباط، أو يرتكب أي جرائم بحق مواطنين سوريين، ممن يسكنون في المناطق التي يسيطر عليها النظام أم المعارضون.
كذلك، تظهر الاتفاقية الروسية - السورية ان انهاء التعاون العسكري بينهما يشترط إبلاغ اي من الحكومتين نظيرتها خطياً، يلي ذلك مهلة عام من وقت الابلاغ لانهاء التعاون. هذا يعني ان الوجود العسكري الروسي مفتوح الأمد، وأنه حتى لو اراد الأسد انهاءه، في حال استتبت له السيطرة على الاراضي السورية وألحق الهزيمة بمعارضيه، يمكن للجيش الروسي البقاء عاماً إضافياً على الاراضي السورية، مع ما يمنح ذلك موسكو من قدرة على فرض اي ترتيبات تناسبها، بما في ذلك اجبار الأسد على الخروج من الحكم تحت ضغط قوتها العسكرية.
بكلام آخر، فيما سعت وسائل الاعلام الموالية لايران والأسد على تصوير تدخل روسيا عسكرياً في سوريا على انه مجاني، وانه ينبع من إيمان بوتين بصحة نظريات وسياسات "محور الممانعة"، يبدو ان تدخل موسكو العسكري المباشر في سوريا — وهو الأول من نوعه للروس في الشرق الاوسط في التاريخ الحديث — حوّل الأسد من حليف موسكو الى تابع لها، أي إن الأسد اصبح بمثابة محافظ يدير اراض تنفق روسيا عليها الاموال وتستثمر فيها عسكرياً وديبلوماسياً لتأمين مصالحها، فيما تأتي مصالح الأسد في الدرجة الثانية.
الوثيقة الثانية التي سرّبتها موسكو هي لائحة بأسماء ١٥ شخصية سورية "معارضة" قدمتها الى الأمم المتحدة لتأكيد مشاركتها في مؤتمر جنيف الثالث المخصص لحل الأزمة السورية. وتصدر اللائحة هيثم مناع وقدري جميل وصالح مسلّم وسمير العيطة.
وبينما يحاول الأسد الايحاء انه يخترق المعارضة السورية بهذه الشخصيات، وأخرى غيرها، يبدو في الواقع أن موسكو نجحت في اقامة علاقات مستقلة مع هؤلاء، ما يجعل مقدرة الأسد للسيطرة عليهم محدودة، وما يجعل امكان تخلصه منهم صعباً، بسبب الغطاء الروسي.
الوثيقة الاخيرة الناقصة هي لائحة باسماء ضباط "الجيش العربي السوري" ممن اقام الروس معهم علاقة مباشرة، خصوصاً منذ بدء التدخل العسكري الروسي في ٣٠ ايلول/سبتمبر الماضي. هذه اللائحة لا شك إنها موجودة، وتمثل المسمار الاخير في نعش سيادة سوريا واستقلالية الأسد بقراره، وهي لائحة تتطلب سرية، ولكن لا شك ان روسيا، بتسريبها الوثيقتين، نجحت في ايصال الرسالة الى المسؤولين في واشنطن وعواصم القرار الاخرى.