ربطات عنق للاجئين
"اللاجئين حايلبسوا كرافتات برضه؟"، هذا ما قاله ممتعضاً، مسؤول في منظمة محلية لرعاية اللاجئين، وهو يفتح صندوق مساعدات ضخم من الورق المقوى. ومخصص للاجئين السودانيين في مصر، عقب مذبحة المهندسين الشهيرة ضدهم نهاية العام 2005، على يد قوات الأمن المصرية.
عقب المذبحة، بات اللاجئون أيامهم في الشتات، بين الكنائس والمعسكرات والمنازل والمساجد، على أطراف العاصمة المصرية. فكّر الأصدقاء في ما يمكن أن يقدموه لهم في الشتاء، من ملابس وأغطية. حساسية البعض لم تتقبل أن يكون هناك، ولو بالخطأ أشياء قد لا يحب اللاجئ، أو لا يريد ارتداءها، مثل "الكرافتات!".
حساسية اللاجئ جزء مما مر، وستبقى معه، ويجب أن تُفهم في إطار أوسع، نظراً لما يمر به أيضاً في بلد اللجوء، وليس فقط في موطنه الأصلي. ولذلك، فالعاملون في مجال إغاثة اللاجئين، في عالمنا العربي، ليسوا بحاجة إلى استظهار القانون الدولي، وتوزيع عناوين وبطاقات مقار الإغاثة، بقدر ما هم بحاجة إلى عقل يستوعب، وقلب يتعاطف صادقاً متحملاً. أما النظرة للاجئ نفسه من مواطني وإعلاميي العالم العربي، فيجب أن تتغير أيضاً، وأن تعلو على فكرة "الأغراب الذين لا حول لهم ولا قوة"، أو "الجبناء الذين فروا من بلادهم"، كما ردد لفترة ساسة ومشاهير في الإعلام 2013. قانونياً، أولئك لديهم حماية من الأمم المتحدة نفسها.
وربما على اللاجئين أيضاً، أن ينتظموا أكثر في تجمعات تمثلهم، وفق الشرعة الدولية، وليس بحسب تعدد انتمائهم المذهبي والقومي. فلقد كان من المزعج أن يندلع شجار بين علويين وسنة سوريين، في مخيم في تركيا نهايات العام 2011، لمجرد أن كل طرف منهم، لا يطيق أن تضمه أسلاك معسكر واحد مع مواطنيه، الذين يحملون هوية دينية أو قومية مغايرة له.
من الصعب أن تشعر باللاجئ تماماً، أو أن تضع نفسك مكانه، وتغرس أصابع أقدامك في الأرض مثله، حتى لا يقتلعك الطغاة والغزاة، وحتى السيول والكوارث الطبيعية. فتضطر للرحيل طلباً للأمن، والحفاظ على أولى حقوق الإنسان: الحق في الحياة. تغرس أقدامك من جديد، في صحراء وجبال عبر مصر والسودان، أو رمال عبر ليبيا وصولاً إلى ساحل المتوسط. ثم تدفع الرشاوى، لو حالفك الحظ وهربت من الاعتقال، وفق اتفاقية ثنائية سابقة بين ليبيا، إبان حكم القذافي وبين إيطاليا الأوربية. والمدهش أن تلك الاتفاقية لازالت تطبق عملياً حتى الآن. وفي جنوب المتوسط، إذا لم يغرق بك قارب الموت، ستعامل بإنسانية حتى تنتهي قريباً جداً ميزانيات واتفاقيات أوربية تسمح بهذه الإنسانية.
في الأردن، ستضطر لتقبل فكرة عدم توقيع المملكة على اتفاقية جنيف، وستعيش على تعديلات وتفاهمات وظروف اقتصادية متقلبة. وسيتغير اسم المخيم الذي تعيش فيه، ويبتعد قليلاً من الحدود، وسيزورك ولي عهد بريطانيا وعقيلته، لكنك ستبقى لاجئاً محاطاً بأسوار. وستغرق بمياه الأمطار من حين لآخر، وكأن أحداً لا يعلم شيئاً عن طقس هذه المنطقة قبل تشييد المخيمات. وستسمع من فترة لأخرى طبولاً وهتافاتٍ تريد طردك.
في المقابل، وقّع الاحتلال الإسرائيلي الاتفاقية الدولية. لكنه ينتهك كل بند فيها، بدءاً من تجريم اللجوء ومنع "المتسللين" من التقدم بطلب لمقابلة ممثل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. ووصولاً إلى الإعادة القسرية للبلد الذي فررت منه، وحبس واعتقال لمدد قد تصل لخمس سنين، أو تدفع الدولة "الديموقراطية وفق هواها" أموالاً لتهجيرك لبلد رابع.
وفي السعودية، لا يوجد ما يمنع أن يعيش اللاجئون في الصحراء سنوات، منذ العام 1991 وحتى عقب 2003. وعلى حدود اليمن، لا يحاسب أحد عندما يدفع الحرس السعودي اللاجئين الفارين من معارك العام 2010 للعودة، فيقتل منهم العشرات.
وفي لبنان، ستضطر في بعض الأماكن لأن تخضع لحظر تجول عليك فقط، لكونك لاجئاً سورياً. وستكون محظوظاً إذا ما نجوت من الصخب السياسي والطائفي اليومي، ولاسيما أنك محسوب على طرف ما رغماً عنك، أو دون علمك. في بلدٍ يئن اقتصادياً، فيضطر أطفالك أحياناً للعمل حتى لا يموتوا من الجوع.
وفي لبنان، ستضطر في بعض الأماكن لأن تخضع لحظر تجول عليك فقط، لكونك لاجئاً سورياً. وستكون محظوظاً إذا ما نجوت من الصخب السياسي والطائفي اليومي، ولاسيما أنك محسوب على طرف ما رغماً عنك، أو دون علمك. في بلدٍ يئن اقتصادياً، فيضطر أطفالك أحياناً للعمل حتى لا يموتوا من الجوع.
في الجزائر ستحظى كل بضعة أشهر بزيارة لأقاربك عبر الحدود، بسبب حدث سياسي منذ أكثر من 35 عاماً. أنت لاجئ ولا يمكن لمّ شملك مع أسرتك، لكن ستزورهم عبر أسلاك، أو في مقابلات بحضور وسيط دولي.
وفي السودان، وجنوبه، ستقتل في كردفان لأنك من دارفور، وفي المخيمات ستغتصب النساء عندما يخرجن لجلب المياه والحطب. وستقتل في مسجد في الجنوب مع مسيحيين ووثنيين، لمجرد أن فصيلاً أراد الانتقام من هزيمته على يد آخر. وستهرب الى ملكال أو غيرها، وقد تقتل بأسلحة متطورة أو بالحراب طعناً، فأنت لاجئ ليس إلا. وعندما يحصون أعداد القتلى سيقال: من هذا الفصيل سقط عشرة مقابل خمسة من محاربي ذاك الجناح، ولن يذكرك أحد في مقاصة الحرب، أو لعبة الأرقام.
ربما لو كنت صومالياً تهرب عبر البحر الى اليمن، وإذا ما اضطربت الأوضاع هناك، عدت للصومال، ليتسلمك المتشددون. أنت لاجئ طائر، منتقل بين الصومال، وبونتلاند، وكينيا واليمن وغيرها. ستموت أيضاً، فليس هناك ما يحفظ حياتك منذ 24 عاماً.
يموت اللاجئون أو يعيشون كالأموات، لأنهم يُخصَمون كرقم من عداد البشر والأحياء، بمجرد أن يتحولوا إلى ملتمسي حماية، أو لاجئين. سيجرّمون لو أنهم سافروا، واعتُبروا "مهاجرين غير شرعيين"، حسب الوصف الذي يلوكه الإعلام العربي بكل تعالٍ. آن لهذه القسوة كلها أن تتوقف. أن نفهم ونتفهم، ونتعايش ونساند، ففي ظل اضطرابات عالمنا العربي: رفقا بهؤلاء؛ فكلنا لاجئون ولو بعد حين.