إبل السقي: النموذجية في الاحتضان والوافرة ماء وأدباً

حسين سعد
الإثنين   2024/09/16
بلدة الكثير من رواد النهضة الثقافية والتحررية في الجنوب ولبنان (علي علوش)

كثيرة هي الحكايا والقصص والوجوه في إبل السقي، التي تفرد أجنحتها وتمد جسور التواصل والإلفة مع جاراتها وبين أبنائها، متعددي النسيج الاجتماعي والسياسي والحزبي، الذي دخل باكرا إلى البلدة، مؤازراً ثورة الفلسطينيين في العام 1936.

إبل السقي، التي كانت مورداً لقوافل الإبل، ذهاباً وإياباً من الشام وإسطنبول نحو فلسطين وبالعكس، والتي شكل فيها أول مجلس بلدي في العام 1964، يصح وصفها أنها بلدة نموذجية، كما أطلق عليها هذا اللقب قبل إندلاع الحرب، حيث كان يحتوي مركزها الثقافي على كتب ومجلدات قيمة قبل أن يتم العبث بها.

فإبل السقي هي شيخ الأدب الشعبي سلام الراسي (1911- 2003)، ورائد الفضاء رجا كامل سعادة، وطبيب العيون المعروف (النائب إلياس جرادة). وهي أيضاً بلدة أحد مطلقي الرصاصات الأولى لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (عملية بسترس) وأيضاً أبرز قادة هذه الجبهة، كمال البقاعي.

إبل السقي، التي تحمل هذا الإسم منذ مئات السنين لكثرة ما كانت تردها الإبل لإطفاء ظمئها من مياهها الوفيرة والعذبة من ينابيعها، تتمسك بحسن العلاقات الطيبة مع محيطها ومواقفها الوطنية الثابتة.

تحولت إبل السقي، إحدى أكبر بلدات منطقة مرجعيون مساحة، من بلدة زراعية بإمتياز إلى سوق تجاري عامر، بفعل تواجد مقر للكتيبة النروجية العاملة ضمن قوات "اليونيفيل" منذ ما بعد العام 1978، مع استمرار تمايزها بزراعة الزيتون والخضراوات المروية وغير المروية.

لم تنفصل البلدة، التي تتجاور مع الخيام وراشيا الفخار والفرديس ودبين وبلاط وسواها، عن واقعها المقاوم لإسرائيل من كافة طيفها الديني (تتكون البلدة من مسيحيين ودروز)، وكذلك الحزبي، الذي تغلب عليه أحزاب الشيوعي والقومي والتقدمي الاشتراكي. فلا تزال أمينة لمبادىء وتضحيات المناضلين الأوائل، الذين أعدمهم الفرنسيون في ساحة كنيسة البلدة مع بدايات الحرب العالمية الثانية.

النائب جرادة: أهالي إبل السقي مثال في الاحتضان
يؤكد النائب إلياس جرادة، الذي كان واحداً من أبناء إبل السقي، الذين زُج بهم في معتقل الخيام إبان الاحتلال الإسرائيلي، أن إبل السقي هي بلدة عساف الصباغ وجورج نصرالله وكمال البقاعي، وبلدة الكثير الكثير من رواد النهضة الثقافية والتحررية في الجنوب ولبنان. ولذا، لا يمكن أن يكون موقعها الحالي والمستقبلي إلا منسجماً مع موقعها التاريخي. وهو موقع متقدم في الدفاع عن قضايا الإنسان والإنسانية.

وقال لـ"المدن"، إن إبل السقي محاصرة بزنار نار إسرائيلي، حيث تتعرض للقصف. وإنها بالمقابل تحتضن نازحين بين أهلهم، وهي أيضا رمز للعيش المشترك. وهي نقطة انصهار.

ويضيف جرادة، كل مواطن في إبل السقي يرى أن هذه المعركة هي معركة إنسانية بامتياز. فالمجزرة الحاصلة في فلسطين هي مجزرة بحق الإنسانية بكل معنى الكلمة، ولا يمكن إلا أن يكون هناك موقف متقدم لأهالي إبل السقي، الذين يعطون مثالاً للصمود والاحتضان.

البقاعي: إبل بلدة مقاومة منذ 100 عام
تتألف بلدية إبل السقي، التي مضى على إنشائها 60 عاماً، من 15 عضوا، برئاسة مسيحي ونائب رئيس درزي. ويؤكد رئيس البلدية سميح البقاعي، أن إبل السقي لن تحيد عن خيارها الوطني المقاوم، التي دفعت الكثير من شبانها في سبيل قضية فلسطين، منذ ما قبل نكبة فلسطين، بأكثر من عشرة أعوام.

ويقول البقاعي لـ"المدن"، إن بلدتنا الواقعة على هضبة وتغتني بالينابيع والمياه الجوفية، حيث يوجد فيها 16 بئراً ارتوازياً، تم حفرها في ستينيات القرن الماضي من قبل وزارة الطاقة والمياه، شهدت محطات عديدة في مسيرتها. فقد شكل إبن البلدة القائد الشيوعي عساف الصباغ مجموعات لدعم الثورة داخل فلسطين في العام 1936، كانت تقوم بجمع السلاح وتهريبه إلى فلسطين. ويضيف: إن الرئيس رياض الصلح والنائب معروف سعد كانا يزوران إبل السقي ويؤمنان احتياجات هؤلاء الشبان. مؤكداً بأن عساكر الجنرال فيشي الذين دارت معركة بينهم وبين عساكر حكومة فرنسا الحرة بقيادة الجنرال غورو في وادي إبل السقي، وتحول إلى برك من الدماء، عمدوا إلى إعدام 16 شاباً من أبناء البلدة في ساحة الكنيسة، من بينهم القائد الصباغ، وذلك في العام 1941.

ويشير البقاعي، إلى أن البلدة تزخر بالطاقات الأدبية والفكرية والعلمية، غنية عن التعريف، مثل الأديب سلام الراسي "أبو علي"، والصحافي الكبير شاهين بك ماتيريوس، الذي هاجر إلى مصر وأسس فيها جريدة "المقطم". لافتاً إلى الهجرة المبكرة لأبناء إبل إلى دولة البرازيل، في الحرب العالمية الأولى، حيث يوجد في هذا البلد حوالى 6 آلاف فرد من جذور "إبلية"، غالبيتهم غير موجودين على لوائح البلدة ولا يزورونها.. إضافة إلى وجود هجرة جديدة إلى كندا وأوروبا وباقي أصقاع العالم.

ويلفت الرئيس البقاعي إلى أن إبل السقي، التي يتعرض محيطها لغارات وقصف إسرائيلي، كانت خط الدفاع الأول في السبعينيات في مواجهة قوات سعد حداد الموالية لإسرائيل، وقد لحقها دمار شامل في العام 1978، وهجر أهلها قاطبة إسوة بجارتنا الخيام وعدد من قرى حاصبيا، لا سيما كفرشوبا وراشيا الفخار. وأُعيد إعمار بيوت البلدة بعد دخول قوات اليونيفيل، حيث بدأت عملية الازدهار والعمران. مؤكداً بأن المياه متوفرة للمنازل والري من بئر ارتوازي تشرف عليه مصلحة مياه لبنان الجنوبي، وأيضاً الكهرباء المتوفرة بشكل دائم.

وحول مسيرة البلدة، خلال الاحتلال الإسرائيلي، الذي امتد من آذار 1978 وحتى العام 2000، يوضح البقاعي أن إبل السقي قدمت العديد من الشهداء، في إطار جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ومنهم الشهيد جورج نصرالله، الذي استشهد في عملية جبل الشيخ، فيما لجأ والده إلى تناول السم ووفاته، حتى لا يفشي بمعلومات عن المقاومين، نتيجة حجم التعذيب الذي مورس بحقه في سجن الخيام، الذي زج فيها العشرات من أبنائنا.