رياض سلامة من حاكم إلى محكوم

عارف العبد
الجمعة   2024/09/06
تحوّل سلامة إلى خادم أمين وطيّع، لمصالح القوى السياسية والمافياوية المتحالفة (الأرشيف، علي فواز)

شكلت خطوة توقيف حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، من قبل مدعي عام التمييز بالإنابة، القاضي جمال الحجار، حدثاً كبيراً ومهماً، وبشكل مفاجىء، ما شكل صدمة إيجابية وقوية للرأي العام، وإبرة مورفين كبيرة ومدعمة للشعب اللبناني المتحرق والمحروق بنار المافيات المتحكمة والحاكمة التي تربع سلامة على رأسها.

هذه الخطوة القضائية، لم يكن يتوقعها أو ينتظرها أحد. خصوصاً بعد أن اعتاد الناس على مشاهدة أخبار وصور الحاكم السابق، يتجول ويتنقل من مكان إلى آخر براحة تامة، في بعض الأماكن العامة والخاصة وبحراسة رسمية.

بطبيعة الحال، فإن السؤال الذي طرح نفسه ولا يزال عند الجميع، منذ حدث توقيفه، لماذا تم التوقيف الآن؟ وليس إثر خروجه من منصبهـ بعد أن تُرك يتجول في أمكنة ومواقع متعددة، وبعد أن مُنع من السفر. وما هي المعطيات التي طرأت على الملف، لكي يقوم القاضي الحجار بهذه الخطوة و"يشرب حليب السباع"، ويقدم على توقيفه. وإلى أين يمكن أن تؤدي هذه الخطوة، أو الخطوات القضائية المنفذة ضد الحاكم، وماهو مصيره بعد الآن؟

لا يمكن الإنكار أن الأوساط الشعبية قد أحست بالراحة والترحيب بقرار توقيفه الحاكم السابق، نتيجة الحالة التي وصلت إليها البلاد، ونتيجة السياسة والممارسات التي اتبعها سلامة. والتي انكشف قسم كبير منها، وشكلت مقدمة للانهيار المالي والنقدي، وبالتالي، الاقتصادي والمعيشي التي يعيشها لبنان. ونتيجة غياب خطوات المحاسبة والتصحيح من قبل الجهات والسلطات المسؤولة، أي الحكومة ومجلس النواب والقضاء.

في الواقع، فإن سلامة هو من بين أقدر الشخصيات في الإدارة النقدية. وقد لعب خلال وجوده حاكماً لمصرف لبنان، أدواراً بظاهرها إيجابيات متعددة، حين كان يتعرض سوق القطع لصدمات واهتزازات بفعل الأزمات السياسية التي مرت، وهي كثيرة.

مشكلة رياض سلامة الفعلية والأساسية، أنه خرج و"شطح" عن نطاق المهمة التي أنيطت به، وانخرط في أكبر عملية إلهاء وتدليس وإخفاء للحقائق. كما شارك وسوّق وروّج في ارتكابات متعددة.

إلا أن الذي سهل إصابته بهذا المرض، هو تحوله إلى خادم أمين وطيع، لمصالح القوى السياسية والمافياوية المتحالفة، الحاكمة والمارقة، نتيجة أنه أصيب بداء ووهم الوصول إلى كرسي الرئاسة الأولى في بعبدا.

كرّس سلامة كل نفوذه ونشاطه واهتمامه وشطارته وإمكاناته، للترويج والتحضير للوصول إلى رئاسة الجمهورية. وهو الذي "استقتل" للوصول إلى هدفه. فقد حول نفسه إلى ما يشبه "بابا نويل" السلطة النقدية. ولأجل ذلك، اتبع سياسة استرضاء وتأمين الأموال والنقد، والهدايا وتغطية "السماوات بالقبوات" لتحالف القوى الحاكمة، من أجل أن يرضوا عليه ويسهلوا أو يقتنعوا بوصوله إلى الرئاسة.

تناسى وتجاهل حاكم المصرف المركزي أن القانون منحه حصانة أساسية وقوية، أساسها أنه قادر أن يقول للسلطة السياسية كلمة لا، كفى. لا يمكنكم الاستمرار بهذه السياسات المالية، ولا يمكنكم الإنفاق والتجاوز في الإنفاق والإسراف بهذه الطريقة، وبهذا القدر. ولكنه، لكي يؤمن رضاهم، عمد إلى مسايرتهم بأغلب وبكل ما طلبوه.

أكثر من ذلك، ابتدع لعبة أحبها واستطابها الجميع، وسكت عليها وأمّن لها التغطية، مع أنها سرقة ولعبة احتيال موصوفة. وهي لعبة ما عرف بـ"الهندسات المالية". والتي هي في المحصلة لعبة إخفاء خسائر بعض المصارف، والقيام بتأمين أرباح لها عبر التلاعب بالميزانيات ونقل أموال من حسابات إلى حسابات. أي لعبة كما يقال بالعامية "نقل كشاتبين" و"تلبيس طرابيش".. من دون أن ينتبه إلى أن هذه اللعبة تنفع ليوم أو يومين، أو على المسرح الوهمي. لكنها لن تنفع لتدير اقتصاد جمهورية مهتزة ومجتمع متطلب وتحالف قوى متوحش وجشع.

الحقيقة، أن الاستفادة من الهندسات المالية وتوزيع الأموال، شملت أغلب المصارف، أي أغلب القوى السياسية والزعامات، التي تملك قسماً كبيراً من هذه المصارف، والتي بلغت حسب خبراء موثوقين وحياديين، أكثر من عشرين مليار دولار.   

من الواضح أن مجموعة من العناصر المهمة والجديدة قد تجمعت في المدة الأخيرة، وطرأت وفرضت نفسها على القوى الحاكمة، حتى أمّنت القوى الحاكمة التغطية الكاملة للقضاء لكي يقدم على توقيفه ومن ثم الادعاء عليه.

العنصر الأول، تمثل بما قدمه حاكم مصرف لبنان بالإنابة المغطى والمحمي سياسياً، وسيم منصوري، بالتشاور مع الدائرة القانونية في المصرف، والذي أرسل إلى القاضي الحجار قبل أسبوعين كل الداتا المتعلقة بحساب "الاستشارات"، أي الحساب الذي أودعت فيه الأموال والمعلومات بخصوص عمليات شركة "أوبتيميوم"، وهو ما يفترض أنه شكّل انعطافة في التحقيقات، وإضافة قوية في المعلومات. علماً أن الحجار كان بدأ التحقيق في ملف "أوبتيموم" نهاية تموز الماضي، وهو الملف عينه الذي كانت تحقّق فيه القاضية غادة عون قبل أن يُسحب منها.

هذا الحساب، أي حساب "الاستشارات"، يحتوي على أسماء المستفيدين من الأرباح الوهمية التي نتجت عن عمليات بيع وشراء سندات خزينة وشهادات إيداع وعمليات أخرى مختلفة. وقام الحاكم السابق بتوزيعها على مجموعة من المحظيين، تحت عنوان "استشارات". وأرسل منصوري المعلومات مباشرة إلى الحجار.

العنصر الثاني، هو المعركة التي يخوضها لبنان مع مؤسسات التصنيف الدولية والمؤسسات المالية العالمية، وتحديداً مجموعة العمل المالي "FATF" التي كانت تضغط على لبنان، لاتخاذ خطوات ملموسة ضد الجرائم المالية، من أجل أن لا يدرج لبنان على "اللائحة الرمادية"، والتي من شأنها أن تشكل -في حال حدوثها- ضربة موجعة وقاسية للبنان، وللجهود التي يبذلها، والنتائج التي يأمل بها، لكي يبقى خارج هذا التصنيف، مما يؤثر بشكل كبير على أية خطوة باتجاه التعافي المالي والمصرفي مستقبلاً.

العنصر الثالث، هو تفاقم ملف المخالفات والادعاءات والشكاوى الدولية على رياض سلامة، لدى بعض الدول المؤثرة، نتيجة شبهات واتهامات له بمخالفات في هذه الدول. وفي ظل ما كُشف عن زيارة قام بها قاضيان فرنسيان، أحدهما سيرج تونار، إلى المدعي العام التمييزي القاضي جمال الحجار.

علماً أن القاضي تونار يتابع ملف سلامة في باريس ومذكرات التوقيف بحقه. والقضاء الفرنسي سبق أن حذر القضاء اللبناني، أنه في حال لم يفتح ملف التحقيق مع سلامة، سيتحمل مسؤولية التبعات، وبصورة خاصة وضع لبنان على اللائحة الرمادية، نظراً لتخلفه في ملاحقة القضايا والجرائم المالية، ومنها ملف سلامة.

هذه المعطيات والعناصر كلها تجمّعت وحتّمت على السلطات السياسية والقضائية المتفاهمة والمتضامنة، الإقدام على خطوة توقيفه، والادعاء عليه وسجنه. وبهذه الخطوات، تكون السلطات القضائية والسياسية قد أصابت أكثر من عصفور بحجر سلامة القضائي، وأهمها إعادة تجديد وتبييض صفحاتها، وغسيل يديها ووجهها أمام الرأي العام المحلي والدولي.

وهكذا تحوّل رياض الفطن و"الحربوق" و"العيوق"، بمجرد أن دخل قفص العدلية، من حاكم بارع وطليق لمصرف لبنان، إلى محكوم ومقيد الإرادة وعلى طريق المحاكمة.

أما كيف ستنتهي قصته ومتى، فالعلم عند الله وحده.