جنود مصر المُجهَّلون

شادي لويس
الأربعاء   2024/09/11
النصب التذكاري للجندي المجهول في القاهرة (غيتي)
قبل أسبوع، انتشرت مقاطع فيديو لجنازتي جنديَين في الجيش المصري يخدمان في سلاح المظلات، الأول هو المجند عبد الحميد عاطف بيومي، من محافظة القاهرة، والثاني هو الرقيب محمد مجدي البركاوي من محافظة الغربية. ومع أن عضو مجلس النواب المصري عن دائرة المرج بالقاهرة، محمد إبراهيم البنا، نشر نعياً للمجند بيومي، وصفه فيه بـ"شهيد الواجب العسكري"، لم تعلن القوات المسلحة وفاته، ولا أعلنت وفاة الرقيب البركاوي، ولا ملابسات وفاتهما، سواء من حيث الأسباب أو الموقع.

وليست هذه الواقعة الأولى، بل يظهر وكأن تكتم الجيش المصري على وفاة عناصره، وتعطيل أعراف الموت العسكري ومراسمه، صار عرفاً مستحدثاً. ليُضاف إلى لائحة الجنود المجهولين إسمان آخران نعرفهما على سبيل الصدفة، وربما معهما كثرة من الأسماء لن تعرف أبداً. وسواء عرفنا تلك الأسماء أم لا، فإن موت أصحابها يظل منكراً من قبل المؤسسة العامة، ليس بمعني أنهم ما زالوا أحياء في القيد الرسمي، بل الأفدح أن موتهم بلا وزن، بالقدر نفسه كما هي حياتهم.

والحال أن هناك حقوق للموتى، هي الوجه الآخر لحقوق الأحياء. الموت بكرامة أحدها، والحق في أن يكون للمرء وجه عند وفاته، واسم وكنية. أي الاعتراف بفردية المتوفي، والاعتراف لذويه بالحق في الحزن، وبالمعنى الاجتماعي الأشمل الإقرار بالخسارة والحق في الذاكرة. وحين تكون لهذا الموت صفة الرسمية، كما في حالتنا هنا، تصبح تلك الحقوق مضاعفة، وتقع مسؤولية ضمانها على المؤسسات العامة. وفي المحصلة الأخيرة، تتعلق استحقاقات الموت بالأحياء الباقين والمجتمع، أكثر مما ترتبط بمن رحلوا بالفعل. هكذا يكون البخس الرسمي للجنود الراحلين تعدّياً يطاولنا جميعاً ويهددنا بالمصير نفسه مستقبلاً.

في مايو/أيار الماضي، وبعدما أعلن الجانب الإسرائيلي عن تبادل لإطلاق للنار بين القوات المصرية والإسرائيلية على الحدود، اكتفى الجيش المصري بالإعلان عن مقتل أحد جنوده من دون ذكر اسمه أو رتبته. وحينها نقلت وسائل الإعلام المحلية معلومات عن جنازة لمجند، باسم محمد رمضان، ولاحقاً نشرت وكالة "رويترز" مشاهد لجنازة مجند آخر، يدعى إسلام عبد الرازق. هذا غير العديد من الأسماء الأخرى والصور التي تم تداولها في وسائل التواصل الاجتماعي، من دون طريقة للتيقن من صحتها. وبغض النظر عن الأسماء، يظل العدد الحقيقي لمن سقطوا في الاشتباك على الحدود مجهولاً، وبذلك يكون حتى اعتبارهم "مجرد أرقام" أمراً لا ينطبق عليهم. في حساب السلطة، لم يحصل هؤلاء على حق أن يكون الواحد منهم عدداً في خانة الآحاد يضاف إلى حصيلة الخسائر الإجمالية.

وبينما تتركنا المؤسسة العسكرية في أيدي وسائل الإعلام المحلية والعالمية للتخمين بشأن هويات شهداء الواجب وأعدادهم، ففي حالات أخرى تتولى المهمة مؤسسات تحت وطنية. مثالاً، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قامت مطرانية مغاغة والعدوة، في صعيد مصر، بنشر صور لعزاء الرائد في سلاح الطيران، أنطونيوس حبيب، مرفقة ببيان يشير إلى حضور قادة القوات الجوية مراسم الصلاة على الجثمان في الكاتدرائية المرقسية في القاهرة. وأيضاً هنا، لم تصدر القوات المسلحة أي تصريحات بخصوص ملابسات الوفاة.

احتمالية الموت الطبيعي قائمة بلا شك، والحوادث غير المرتبطة بالخدمة أو بالأعمال القتالية هي أيضاً أمور واردة. والتذرع بسرية العمليات أوبالحفاظ على الروح المعنوية كمبررات للكتمان قد تكون مقنعة في بعض الأحيان. لكن انعدام الشفافية لدى الجهات المعنية بالعموم، وتكرار وقائع إنكار الوفيات، أو إعلانها بلا أسماء وبلا رتب، يؤكد أن ثمة منطقاً واحداً للسلطة يجمع الأحياء والأموات معاً، في معادلة حصيلتها صفرية.