الكرملين ومسرحية الإنتخابات

بسام مقداد
الثلاثاء   2024/09/10
انتخابات روسية في كورسك التي غزا الجيش الأوكراني بعض أجزائها (غيتي)
أيام دراستنا في الإتحاد السوفياتي، كنا ننتظر مع الروس يوم الإنتخابات، خصوصاً في "مجلس السوفيات الأعلى"، لنحصل على بعض سلع "الدليكاتس" أو ما كان يُعدّ آنذاك "رفاهية"، وهي التي لم تكن تتوافر في الأيام العادية سوى في متاجر الدولار، أو تلك المخصصة للنخب البلشفية الحاكمة. فكانت تُنصب في تلك الأيام طاولات أمام مراكز الإقتراع، تُعرض عليها تلك السلع المشتهاة بأسعار مخفضة. وكانت السلطات تطلق على يوم الإنتخابات صفة العيد الذي تؤكد "بهجته" تلك الطاولات والسلع المعروضة عليها.

بعد حوالى 35 عاماً على إنهيار الإتحاد السوفياتي، لم تعد السلطة الحالية بحاجة لتلك الطاولات أمام مراكز الإقتراع، بل نقلتها إلى داخلها، مبقية على المعجنات والقهوة، وعلى وظيقتها المتراجعة في رفع مستوى المشاركة. فرفوف المتاجر أصبحت تنوء بمختلف أنواع السلع "الدليكاتس"، حتى تلك المحظورة غربياً، والتي تنتج محلياً أو في البلدان "الصديقة" النامية. وأصبح في متناول السلطة الكثير من الوسائل الحديثة لإجراء كافة العمليات الإنتخابية وفق الخطط المرسومة، والنتائج المقرة مسبقاً. كما لم تعد بحاجة إلى معادلة "تحالف الشيوعيين واللاحزبيين" التي استخدمها البلاشفة في العمليات الإنتخابية، وكانوا هم يختارون "اللاحزبيين" هؤلاء. واستعاضت السلطة الحالية عن هذه المعادلة بالتحالف "الحر" مع الأحزاب الأربعة التي تشكل البرلمان الروسي (الدوما).

بين 6 و8 الجاري جرت في روسيا إنتخابات لاختيار حكام الأقاليم وبرلماناتها، إضافة إلى إنتخاب ثلاثة نواب لملء الفراغ في مقاعد البرلمان. وجرت الإنتخابات في معظم المناطق الروسية والقرم المحتل، وكذلك في كورسك والمناطق الأخرى المحاذية لجبهة الحرب ضد أوكرانيا. وعدا ظروف الحرب وتصاعد القمع الداخلي، من الصعب التحدث عن جديد في هذه الإنتخابات، سوى أنها سجلت تنوعاً في طريقة التصويت، وأرقاماً قياسية جديدة في تدني المنافسة ونسبة الإقبال على الإقتراع، بل ونسبة والترشح أيضاً.

إعلام الكرملين لم يتوقف كثيراً عند أرقام نسبة الإقبال والترشخ للإنتخابات، بل ركز إهتمامه على تنوع طرق التصويت الإلكتروني، ورأى فيه ميزة تجعل من نظام الإنتخاب الروسي بين الأنظمة الأكثر تطوراً في العالم، إن لم يكن الأحدث والأكثر دينامية بين تلك المعتمدة حالياً. فقد نشر موقع Lenta الروسي الإخباري في 8 الجاري نصاً نقل فيه عن خبراء روس وصفهم النظام الإنتخابي الروسي بالأفضل في العالم.

استهل الموقع نصه، "ليلة الإنتخابات في روسيا والخارج ـــ ما الذي تغير؟"، بالإشارة إلى الطاولة المستديرة التي ترافق الإنتخابات الروسية منذ العام 2017. وناقش إجتماع الطاولة المستديرة التغيرات الرئيسية التي طرأت على النظام الإنتخابي الروسي في السنوات الأخيرة، وأفضلياته على النظم الإنتخابية في البلدان الأخرى. وأكد المشاركون أن الابتكارات في التشريعات الانتخابية وإدخال تقنيات جديدة في الإجراءات الانتخابية، لها تأثير إيجابي في مستوى الإقبال على الانتخابات وجودتها، وأشاروا إلى أن النظام الانتخابي الروسي اليوم يرسم اتجاهات جديدة في الأنظمة الإنتخابية في العالم.

يقول الموقع أن المسؤولة عن إدارة إجتماع الطاولة المستديرة، قالت في كلمتها الإفتتاحية بأن التشريع الإنتخابي الروسي تغير كثيراً منذ إنطلاق مشروع "ليلية الإنتخابات" في العام 2017، وأصبحت الإنتخابات أقرب إلى الشعب. وأضافت أنه من المهم بالنسبة للروس الآن أن يقتنعوا بأن لديهم نظاماً إنتخابياً جيداً، "وهو ما نخاف دوماً من تصديقه".

ونقل الموقع عن مشارك آخر في الطاولة المستديرة قوله بأنه، خلال الأعوام الثلاثين المنصرمة، قطع النظام الإنتخابي الروسي طريقاً احتاجت الأنظمة الأوروبية الطليعية 200 سنة لتقطعه، "ويدخل نظامنا في عداد الأنظمة العالمية الرائدة، من حيث الديناميكية وسرعة التطور وسائر المؤشرات الأخرى".

كما نقل عن عضو لجنة البرلمان الروسي للعلاقات الخارجية Maria Butina قولها بأن روسيا تدخل في عداد الدول العالمية الرائدة في رقمنة العملية الإنتخابية، "ولسنا مضطرين أن نثبت للعالم أجمع بأن لدينا النظام الأفضل. أما أنه يجب تحسينه من أجل شعبنا ـــ فهذا ضروري، وهو ما نقوم به". وتقارن البرلمانية بين تكنولوجيا التصويت الإلكتروني في روسيا وتلك المستخدمة في البلدان الأخرى، مؤكدة أن التصويت عبر الإنترنت يرتبط في الولايات المتحدة بمشاكل بيروقراطية كبيرة وصعوبة الإستفادة من خدماته.

مشارك آخر في الطاولة المستديرة سلط الضوء على خيارات التصويت الجديدة التي أدت إلى تحسين النظام الإنتخابي بشكل كبير: التصويت متعدد الأيام، التصويت من بعد بآلية "الناخب المتنقل".

البوليتولوغ الروسي Vladimir Shapovalov الذي شارك ايضاً في الطاولة المستديرة "ليلة الإنتخابات"، لم يطنب في تعداد محاسن النظام الإنتخابي الروسي كما المشاركين الآخرين. وصرح لصحيفة الكرملين vz، في 8 الجاري أن دينامية تطور النظام الإنتخابي الروسي انطلقت في العام 2017. ورأى أن جائحة كورونا وغزو أوكرانيا ــــ "العملية العسكرية الخاصة" ــــ كانتا وراء هذا التطور.

كان من السذاجة أن نتوقع من أجهزة إعلام الكرملين غير ما رأيناه من ثناء على النظام الإنتخابي الروسي الذي جرت الإنتخابات الأخيرة بمقتضى أحكامه. ولم يكن من المنتظر أن تتوقف هذه الأجهزة عند أجواء القمع التي جرت في ظلها الإنتخابات، ولا أجواء الحرب التي أصبحت منذ شهر تدور على الأراضي الروسية أيضاً. كما لم يكن من المنتظر أن يلتفت إعلام الكرملين إلى رأي المعارضة الرروسية المنفية أو المغيبة في السجون ومعسكرات الإعتقال. لكن كان من المنطقي أن يشير، ولو تلميحاً، إلى غياب الرقابة المستقلة وإستحالة مراقبة نتائج التصويت من بعد، حتى على مشغلي هذا الظام. وكان من المنطقي أيضاً أن يشير إلى مخالفات وخروق لا بد منها في كل العمليات الإنتخابية، لا سيما وأنها جرت على مدى ثلاثة أيام في أرجاء روسيا الشاسعة.

ورغم أن الأمر لا يستحق، لكونه سيناريو خداع يتكرر في كل إنتخابات يجريها نظام بوتين، إلا أن المعارضة الروسية تابعت الإنتخابات بكل تفاصيلها. وعبّر المعارضون عن آرائهم في المواقع الروسية المعارضة التي تصدر خارج روسيا، وفي مواقع الخدمات الروسية في كبريات المنابرر الإعلامية الغربية.

الصحافي الروسي المعارض Andrey Okun عرض في 6 الجاري على موقع kasparov المعارض أيضاً، رأيه في "اليوم الموحد للتصويت"، حسب التسمية الرسمية للإنتخابات الأخيرة. وقال أنه غير مهتم بما سيجري في "اليوم الموحد" هذا، حتى في مدينة سانت بطربورغ، مسقط رأسه. وأوجز رأيه في الإنتخابات الحالية بوصف أطلقه في العام 2021 على إنتخابات جرت حينها في مدينته، حيث قال بأنها "حفلة دعارة".

موقع الخدمة الروسية في "الحرة" الأميركية، نشر نصاً في 8 الجاري حول الإنتخابات الروسية الأخيرة، ووصفها في العنوان بأنها "خداع معتاد" من قبل النظام. قال الموقع بأن الإنتخابات الروسية تجري على خلفية الحرب في أوكرانيا والقمع السياسي الشامل والعمليات الحربية على الأراضي الروسية نفسها. وأضاف بأنه، رغم تطهير روسيا من السياسيين المعارضين والمراقبين المستقلين، إلا أن هؤلاء يستمرون في متابعة هذه الإنتخابات. ويشير إلى أن الحركة الإجتماعية الروسية "Golos" للدفاع عن حقوق الناخب، تقوم بنشر لائحة من المخالفات، وتحلل الوضع في المناطق الروسية. وحسب الخبراء، يسود "الإنضباط واللامبالاة" في هذه الإنتخابات.

ونقل الموقع عن المعارض المنفي والنائب الروسي السابق في البرلمان الروسي Evgeny Stupin قوله بأنهم طردوا الجميع، وما يجري الآن، لا يمكن أن يسمى إنتخابات.