"الرفيق" ترامب: ذكريات روسية
حين أُعلن فوز دونالد ترامب الأول بالرئاسة الأميركية العام 2016، كان كثيرون من نواب البرلمان الروسي (الدوما) محتشدين في قاعة المجلس يتابعون على شاشات التلفزة النتائج التي يحرزها كل من المرشحين آنذاك للرئاسة الأميركية، دونالد ترامب وهيلاري كلينتون. وحين أُعلن فوز ترامب، انفجرت في القاعة عاصفة من التصفيق، ترحيباً بالرئيس الأميركي الجديد. واعتلى منبر المجلس النائب ورئيس حزب روسيا الليبرالي الديموقراطي الراحل فلاديمير جيرينوفسكي، ليعلن بأعلى صوته تهنئة "الرفيق" ترامب بالفوز برئاسة أميركا. وبادر إلى إقامة احتفال في القاعة بالمناسبة، رُفعت فيه كؤوس الشمبانيا من أكثر من مئة قنينة، كما أعلن جيرينوفسكي حينها.
لم تكن رغبة روسيا هذه المرة أقل في وصول ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية، لكنها لم تترافق مع رفع كؤوس الشمبانيا احتفالاً بفوز "الرفيق" ترامب. وحافظت روسيا بوتين على رغبتها مضمرة، بل أعلن بوتين قبل الانتخابات بأنه يفضل كمالا هاريس على دونالد ترامب الذي يصعب التنبؤ بتوجهاته. ورأى البعض في سلوك الكرملين هذا مساهمة إيجابية مباشرة في حملة ترامب الانتخابية، وذلك لتجنيبه سلبية التأييد الروسي له بنظر الناخب الأميركي. وقبل أن يعلن بوتين في 7 الجاري تهنئة ترامب برئاسته الجديدة، بقي الإعلام مدة يومين يتحزر عن موعد هذه التهنئة وأسباب تاخرها، بعد أن سارع أكثر من 70 زعيم دولة في العالم لتهنئة الرئيس الأميركي الجديد بعد إعلان الفوز مباشرة. وجاء تصريح الناطق بإسم الكرملين ليزيد من حيرة الإعلام، ويتساءل ما إن كانت التهنئة هذه سوف تحصل أم لا. فقد صرح بيسكوف في 6 الجاري بأنه ليس على إطلاع علىى خطط الرئيس بشأن تهنئة ترامب، وأضاف بأنه لا يجب أن ننسى أن الحديث يدور عن بلد غير صديق يشارك بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالحرب "ضد دولتنا". وأضاف بأن روسيا تتابع كل الأنباء الواردة من وراء المحيط، وستبني استنتاجاتها بشأن الموضوعات التي تعنيها وفقاً للتصريحات التي تصدر من هناك، والخطوات الأولى الملموسة التي ستتخذها الإدارة الجديدة. وفُهم من هذا الكلام أن تهنئة بوتين للرئيس الجديد قد لا تأتي إلا بعد استلام الأخير مهامه الرسمية بعد أشهر من الآن.
استغل بوتين فرصة انعقاد المؤتمر السنوي لمنتدى "فالداي" للحوار الدولي في مدينة سوتشي في 7 الجاري، ليوجه التهنئة للرئيس ترامب، من دون الاتصال الهاتفي به، كما فعل معظم قادة الدول الأخرى. ومعظم كبار المسؤولين الروس سبقوا بوتين بتوجيه التهنئة للرئيس الجديد.
نصوص تهنئة كبار المسؤولين الروس وزعماء الأحزاب الأربعة المنضوية في البرلمان، نقلتها صحيفة الأعمال الروسية الكبيرة vedomosti في 6 الجاري. وبنى معظمهم آمالاً عريضة على موقف ترامب المعلن عن عزمه إنهاء الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط، وعلى موقفه المعروف من المساعدات الأميركية المقدمة لأوكرانيا.
بين المسؤولين الروس الذين عبروا عن تهنئتهم للرئيس الأميركي الجديد، كان النائب الأول لرئيس لجنة العلاقات الدولية في البرلمان الروسي عن حزب "روسيا العادلة" Alexey Chepa. رأى البرلماني أن ليس على روسيا أن تنتظر شيئاً "عظيماً" من رئاسة ترامب، بل عليها أن تعتمد على نفسها فقط. وتوقع أن يبقى نظام العقوبات على روسيا قائماً في عهده، لكن سياسة الولايات المتحدة حيال أوكرانيا والشرق الأوسط "قد تتغير".
النائب الأول الآخر لرئيس لجنة العلاقات الخارجية عن الحزب الشيوعي الروسي Dmitry Novikov تذكّر احتفال الشمبانيا بفوز ترامب السابق، وقال إنه لا يرى أحداً من السياسيين الروس يفتح الشمبانيا ويشرب الكحول ابتهاجاً بانتصار ترامب، "فالخبرة أصبحت متوفرة" لديهم.
ونقلت الصحيفة عن الوليتولوغ الروسي Alexander Asafov قوله إن ليس لديه أوهام بشأن فوز دونالد ترامب، أو بالأحرى، بشأن خطوات حاسمة من قبله، كما ليس لديه توقعات كبيرة أيضًا. ويتفق مع البرلماني الروسي الشيوعي بشأن التغيير في سياسة دعم نظام كييف على المدى المتوسط، ويؤكد أن سياسة العقوبات على روسيا ستبقى على حالها.
تتذكر الصحيفة كيف هنأ المسؤولون الروس دونالد ترامب بفوزه العام 2016 على هيلاري كلنتون. وعبر بوتين في برقية التهنئة حينها عن أمله في العمل المشترك لإخراج العلاقات الروسية الأميركية من وضعها المتأزم، وإيجاد الحلول للمسائل الراهنة على الصعيد الدولي.
ومن دون أن تأتي على ذكر حفل الشمبانيا، أشارت الصحيفة إلى نص برقية التهنئة الذي اقترحه على البرلمان آنذاك الراحل جيرينوفسكي، وخاطبت البرقية ترامب بالقول "عزيزنا دونالد، نهنئك بالفوز الذي استحقيته. ودع الجدة هيلاري ترتاح".
موقع الخدمة الروسية في BBC رأى أن رد فعل الكرملين الأولي على انتصار دونالد ترامب كانت حذرة. ونقل عن الفايننشال تايمز قولها إن الكرملين حاول التخفيف من الابتهاج الذي ساد موسكو بمناسبة فوز ترامب. وقالت الصحيفة إن شكوك الكرملين العلنية تتناقض مع تعليقات بعض المسؤلين الروس، الذين عبروا عن الأمل في أن يتمكن ترامب من إلغاء العقوبات الغربية، وممارسة الضغط على كييف للقبول بشروط سلام تلائم موسكو.
موقع الخدمة الروسية في راديو "صوت أميركا" نشر في 7 الجاري نصاً تحدث فيه عن "توقعات ومخاوف" موسكو من رئاسة ترامب الثانية. ونقل الموقع عن Andrey Kolesnikov، الكاتب في كل من صحيفة Novaya وموقع newtimes.ru، تشاؤمه حتى من إنعاش نسبي للعلاقات الروسية الأميركية. ورد فعل موسكو المبتهجة، هو برأيه ترحيب بفوز سياسي غربي غير كلاسيكي معترض على النظام. ويفترض الكاتب أن قيادة الكرملين كانت ستشعر بارتياح أكثر لو فاز بالانتخابات أمثال الفرنسية مارين لوبن وحزب "البدائل لألمانيا". والكرملين يقدم نفسه هنا بأنه من دعاة الأيديولوجية القومية اليمينية المتطرفة.
وقال الكاتب بأنه لم يعد من مكان للأوهام المتعلقة بانتخاب ترامب كما لو أنه "من جماعتنا"، ويمكن فتح زجاجات الشمبانيا ابتهاجاً بفوزه، كما كان في العام 2016. فالولايات المتحدة تبقى الولايات المتحدة، البلد غير الصديق بالنسبة لموسكو، ومركز ذاك العالم الذي يعلن بوتين أن الإنتصار عليه هو رسالته. كما لا مكان للأوهام أيضاً بأن ترامب قد يقترح خطة سلام واقعية بشأن أوكرانيا، تحظى بقبول موسكو أو موسكو وكييف معاً. لكن من الواضح أنه إذا خفض ترامب أو ألغى الدعم العسكري الاقتصادي لأوكرانيا، فسيكون بوتين هو المستفيد من هذا الإجراء.
رأى الكاتب أن الكرملين يبدو أنه خائف من عدم القدرة على التنبؤ بسلوك ترامب، ولهذا فهو حذر للغاية في تقييماته، لدرجة أنه ينتظر أي سيناريوهات وأي خطوات غير متوقعة. ويسوق الكاتب مثالاً على ذلك رئيسة وزراء إيطاليا اليمينية المتطرفة، زعيمة حزب "إخوة إيطاليا"، التي تلتزم بشدة بدعم أوكرانيا، وبالتالي من الصعب التنبؤ بتصرفات إدارة ترامب.
السوسيولوجي والكاتب Igor Eidman قال للموقع إنه لايشك في أن موسكو ترحب وتشرب الشمبانيا ابتهاجاً بفوز دونالد ترامب. ورأى أن تصريحات موسكو العلنية بشأن مسار الانتخابات الأميركية لا تعني شيئاً، بل هي مناورات من قبل بوتين، حيث أعلن في البداية أن بايدن "هو مرشحنا المفضل"، ثم سحب هذا القول على كمالا هاريس، وهذا ليس سوى تمويه فقط. ولم يكن هذا في الواقع، سوى مناورة مموهة لصالح ترامب من أجل درء الشكوك حول وجود علاقات مع الكرملين.