الضحية وصناعة التفاعل: لبنانيون استعجلوا استنساخ غزة
إنها حربنا الأولى مع اسرائيل في عهد السوشال ميديا. إذاً هي لا تشبه حروبنا السابقة، التي لم نملك فيها امتياز التعليق على موتنا أثناء حدوثه. وعليه، فإن التفاعل مع الموت يجب أن يتمّ على وجه السرعة، وبأكثر الطرق استجداءً للمشاهدات والـ"لايكات" من جهة، وللعطف والشفقة من جهة أخرى. هذا طبعاً مع الحفاظ على حُرمة الفاجعة. إنها مهمة صعبة. لكن لا بأس، فلدينا من غزّة قوالب جاهزة لتصوير الإبادة.
منذ اندلاع الحرب بصورتها الشاملة، سارع بعض اللبنانيين يملأون النموذج المستورد من غزّة، رغم اختلاف السياق والمشهدية. أمّا القاسم المشترك فهو آلة القتل الاسرائيلية. تتكرّر المشاهد والشعارات التي رأيناها على مدار العام المنصرم، مع فارق في العنوان: "الضاحية تباد"، مقاطع فيديو لأحياء مدمّرة بالكامل مع موسيقى مأسوية في الخلفية، صور لقطط ناجية في مواقع القصف، مجدداً "إسرائيل ترتكب إبادة"، طوابير من النازحين على أقدامهم، ملائكة صغار "بشعر كيرلي" خطفت اسرائيل ما تبقّى من أعمارهم..
الضحية كصانعة محتوى
كما في القطاع المحاصر، حيث تحوّل صنّاع المحتوى والناس العاديون، بمن فيهم الأطفال، إلى مراسلي حرب، سريعاً ما تكيّف المؤثرون اللبنانيون مع الواقع الجديد. وبأسلوبٍ أشبه بمدوّنات السفر، انتقلوا من تصوير المسابح ومراكز الاستجمام، إلى تصوير الأحياء التي سوّيت بالأرض. كما أصبح الحصول على لقطةٍ لإحدى الغارات المدمِّرة على الضاحية الجنوبية، بمثابة إنجازٍ يهلّل له ملتقط الفيديو، الذي يُسمَع صوته في الخلفية مفعماً بالحماسة والنشوة، لأنه تمكّن من اقتناص اللحظة المناسبة لتوثيق ذلك الكمّ الهائل من الدمار.
وخلافاً لما قد يعتقده البعض، فإن الترندات الرائجة في أيام السلم، مهما كانت تفتقر للجدية، لا تزول بمجرّد وقوع الحرب. فعادت إطلالات الفوود بلوغرز، الذين اعتدنا إثارتهم للجدل. لكن عوضاً عن تذوّقهم الطعام السريع المشبّع بالـ"سوسات"، نراهم يتذوّقون الدمار المشبع برائحة الموت والبارود.
شهدنا هذا النموذج في غزّة أيضاً، حيث تم ابتكار نوع جديد من "الريلز" في "تيك توك" و"إنستغرام"، وهي فيديوهات لتحضير الطعام وسط الركام وفي ظلّ المجاعة. إلا أن هذا التوجّه، بالرغم من إشكاليته، تبلور خلال حرب غزّة بشكلٍ تدريجيّ، ليعكس تكيّف الحياة مع الإبادة بعد أشهر على استمرارها. أما في لبنان، فيظهر هذا الميل إلى "التكيف" مع الكارثة، سابقاً لأوانه، بل وعلى درجة من الخطورة، إذ يحمل دلالةً ضمنيةً بأننا قد بدأنا باكراً بتقبّل مصيرٍ مشابه لمصير الأربعين ألف شهيد. والأخطر، أنّنا نواجهه من دون الحدّ الأدنى من الجدية.
دمعة وفلتر
نلاحظ انتشار نموذج آخر، يتميّز بذاتيته المفرطة. وهي ذاتية مصطنعة، تتبع قواعد واستيطيقيا الجذب "الإنستغرامي". وهنا أيضاً تمّت استعارة قوالب قديمة، من زمن ما قبل الحرب، يتمّ التحضير لها مسبقاً، بتأمين جميع مستلزمات الظهور أمام الكاميرا: إضاءة السيلفي، المكياج، الدمعة، و"الكابشن". شاهدنا مثلاً فيديوهات "السيلفي" التي تستجدي العطف، مع استبدال الموسيقى الخلفية بأصوات القصف وأحياناً البكاء. كما عادت الكليشيهات اللبنانية المتعلقة بالهجرة والاغتراب للظهور، مع انتشار صور وفيديوهات للمؤثرين الميسورين وأصحاب الامتيازات وهم يغادرون البلاد بكل أسى، موثّقين نجاتهم بدمعة و"فلتر"، أمام جمهور لا يملك للنجاة سبيلاً.
مَن تنادون؟
يتجلى هذا التجهيز للحظة الحرب، من حيث الخطاب والمحتوى، في ظهور ناشطين بدأوا بإعادة تدوير النموذج الفلسطيني للنشاطية الرقمية. ومن خلال فيديوهات باللغة الانكليزية، راح هؤلاء يخاطبون المجتمع الغربي، للمرّة الأولى بعد الألف، عارضين جرائم إسرائيل ومجازرها، لِمن لم يتسنَّ له السماع عنها خلال عامٍ كامل، أمضاه ربّما في غيبوبة. هذا بالإضافة إلى تقديم شروحات وافية حول سياق تأسيس الدولة الصهيونية، فربّما هناك مَن غفل عنها طوال السنوات الـ76 الماضية.
ولم يقتصر الأمر على اللغة الإنجليزية، رغم ثبوت عدم فعاليتها في درء الإبادة أو حتى تخفيف حدّتها. بل تم تبني اللكنة الأميركية، وفي بعض الأحيان البريطانية، مصحوبة بمصطلحات أكاديمية حول مناهضة الاستعمار. لكن، لسوء الحظّ، لا آذان صاغية. فالمجتمعان العربي والغربي لم يعودا مهتمين بسماع المزيد عن جرائم إسرائيل، سواء لأسباب سياسية أو، ببساطة، لأن طاقة العالم على مشاهدة هذه المأساة، والتفاعل معها، قد نفدت.
لا تعتادوا المشهد
سبق أن رأينا ذلك كله. ليس لمرّةٍ أو اثنتين، بل لمرّات متعدّدة في اليوم الواحد على مدى عام كامل. "لا تعتادوا المشهد!".. كان واحداً من شعارات هذا المشهد، وهو في صميمه تعبير عن اعتيادنا له. فكيف لنا ألا نعتاد مشهداً مكرّراً آلاف المرات؟ لقد ألفنا مشهد موتنا قبل وقوعه حتّى، وهنا جوهر الإختلاف بين حرب غزّة وحربنا. فبينما تسنّى للغزيين إختبار واقعهم بشكله الخام قبل تحويله إلى محتوى، أو بالتوازي معه، جاءت الصورة في لبنان سابقة للواقع. تلاشت تلك المسافة المعهودة بين الموت وبين الاستثمار الإعلامي والسياسي فيه، لتنزع عن الضحية بعضاً من إنسانيتها في سبيل تحويلها إلى مادّة ورمز.
منذ اندلاع الحرب بصورتها الشاملة، سارع بعض اللبنانيين يملأون النموذج المستورد من غزّة، رغم اختلاف السياق والمشهدية. أمّا القاسم المشترك فهو آلة القتل الاسرائيلية. تتكرّر المشاهد والشعارات التي رأيناها على مدار العام المنصرم، مع فارق في العنوان: "الضاحية تباد"، مقاطع فيديو لأحياء مدمّرة بالكامل مع موسيقى مأسوية في الخلفية، صور لقطط ناجية في مواقع القصف، مجدداً "إسرائيل ترتكب إبادة"، طوابير من النازحين على أقدامهم، ملائكة صغار "بشعر كيرلي" خطفت اسرائيل ما تبقّى من أعمارهم..
الضحية كصانعة محتوى
كما في القطاع المحاصر، حيث تحوّل صنّاع المحتوى والناس العاديون، بمن فيهم الأطفال، إلى مراسلي حرب، سريعاً ما تكيّف المؤثرون اللبنانيون مع الواقع الجديد. وبأسلوبٍ أشبه بمدوّنات السفر، انتقلوا من تصوير المسابح ومراكز الاستجمام، إلى تصوير الأحياء التي سوّيت بالأرض. كما أصبح الحصول على لقطةٍ لإحدى الغارات المدمِّرة على الضاحية الجنوبية، بمثابة إنجازٍ يهلّل له ملتقط الفيديو، الذي يُسمَع صوته في الخلفية مفعماً بالحماسة والنشوة، لأنه تمكّن من اقتناص اللحظة المناسبة لتوثيق ذلك الكمّ الهائل من الدمار.
وخلافاً لما قد يعتقده البعض، فإن الترندات الرائجة في أيام السلم، مهما كانت تفتقر للجدية، لا تزول بمجرّد وقوع الحرب. فعادت إطلالات الفوود بلوغرز، الذين اعتدنا إثارتهم للجدل. لكن عوضاً عن تذوّقهم الطعام السريع المشبّع بالـ"سوسات"، نراهم يتذوّقون الدمار المشبع برائحة الموت والبارود.
شهدنا هذا النموذج في غزّة أيضاً، حيث تم ابتكار نوع جديد من "الريلز" في "تيك توك" و"إنستغرام"، وهي فيديوهات لتحضير الطعام وسط الركام وفي ظلّ المجاعة. إلا أن هذا التوجّه، بالرغم من إشكاليته، تبلور خلال حرب غزّة بشكلٍ تدريجيّ، ليعكس تكيّف الحياة مع الإبادة بعد أشهر على استمرارها. أما في لبنان، فيظهر هذا الميل إلى "التكيف" مع الكارثة، سابقاً لأوانه، بل وعلى درجة من الخطورة، إذ يحمل دلالةً ضمنيةً بأننا قد بدأنا باكراً بتقبّل مصيرٍ مشابه لمصير الأربعين ألف شهيد. والأخطر، أنّنا نواجهه من دون الحدّ الأدنى من الجدية.
دمعة وفلتر
نلاحظ انتشار نموذج آخر، يتميّز بذاتيته المفرطة. وهي ذاتية مصطنعة، تتبع قواعد واستيطيقيا الجذب "الإنستغرامي". وهنا أيضاً تمّت استعارة قوالب قديمة، من زمن ما قبل الحرب، يتمّ التحضير لها مسبقاً، بتأمين جميع مستلزمات الظهور أمام الكاميرا: إضاءة السيلفي، المكياج، الدمعة، و"الكابشن". شاهدنا مثلاً فيديوهات "السيلفي" التي تستجدي العطف، مع استبدال الموسيقى الخلفية بأصوات القصف وأحياناً البكاء. كما عادت الكليشيهات اللبنانية المتعلقة بالهجرة والاغتراب للظهور، مع انتشار صور وفيديوهات للمؤثرين الميسورين وأصحاب الامتيازات وهم يغادرون البلاد بكل أسى، موثّقين نجاتهم بدمعة و"فلتر"، أمام جمهور لا يملك للنجاة سبيلاً.
مَن تنادون؟
يتجلى هذا التجهيز للحظة الحرب، من حيث الخطاب والمحتوى، في ظهور ناشطين بدأوا بإعادة تدوير النموذج الفلسطيني للنشاطية الرقمية. ومن خلال فيديوهات باللغة الانكليزية، راح هؤلاء يخاطبون المجتمع الغربي، للمرّة الأولى بعد الألف، عارضين جرائم إسرائيل ومجازرها، لِمن لم يتسنَّ له السماع عنها خلال عامٍ كامل، أمضاه ربّما في غيبوبة. هذا بالإضافة إلى تقديم شروحات وافية حول سياق تأسيس الدولة الصهيونية، فربّما هناك مَن غفل عنها طوال السنوات الـ76 الماضية.
ولم يقتصر الأمر على اللغة الإنجليزية، رغم ثبوت عدم فعاليتها في درء الإبادة أو حتى تخفيف حدّتها. بل تم تبني اللكنة الأميركية، وفي بعض الأحيان البريطانية، مصحوبة بمصطلحات أكاديمية حول مناهضة الاستعمار. لكن، لسوء الحظّ، لا آذان صاغية. فالمجتمعان العربي والغربي لم يعودا مهتمين بسماع المزيد عن جرائم إسرائيل، سواء لأسباب سياسية أو، ببساطة، لأن طاقة العالم على مشاهدة هذه المأساة، والتفاعل معها، قد نفدت.
لا تعتادوا المشهد
سبق أن رأينا ذلك كله. ليس لمرّةٍ أو اثنتين، بل لمرّات متعدّدة في اليوم الواحد على مدى عام كامل. "لا تعتادوا المشهد!".. كان واحداً من شعارات هذا المشهد، وهو في صميمه تعبير عن اعتيادنا له. فكيف لنا ألا نعتاد مشهداً مكرّراً آلاف المرات؟ لقد ألفنا مشهد موتنا قبل وقوعه حتّى، وهنا جوهر الإختلاف بين حرب غزّة وحربنا. فبينما تسنّى للغزيين إختبار واقعهم بشكله الخام قبل تحويله إلى محتوى، أو بالتوازي معه، جاءت الصورة في لبنان سابقة للواقع. تلاشت تلك المسافة المعهودة بين الموت وبين الاستثمار الإعلامي والسياسي فيه، لتنزع عن الضحية بعضاً من إنسانيتها في سبيل تحويلها إلى مادّة ورمز.