حرب لا تشبه غيرها

علي سفر
الأربعاء   2024/09/25
سكان الغبيري، في الضاحية الجنوبية لبيروت، يهربون من القصف الإسرائيلي (علي علوش)
كل حرب مشكلة، كارثة، وقبل هذه وتلك جريمة، طالما أنها، ورغم كل التطور البشري، تقتات على ضحاياها من المدنيين. ولو أنها تجري من دون أن يسقط بسببها الأبرياء، لكانت مجرد مسابقة بأدوات دموية. هناك من يتطوع لأن يكون لاعباً، وعلى عقله غلالة من الشعارات القومية أو الوطنية أو الدينية، فتصبح الجريمة قَدَراً نازفاً.

يمكن العثور في الآداب والفنون على آلاف التجارب، لمبدعين عايشوا حروبهم، وكتبوا عنها. لكنك حين تعيش الحرب من داخلها، فلن تقارب ما يحدث معك إلا بما تحاول، أو يتوجب عليك أن تفعله، أي أن تنجو. ثمة مَن أفلت مِن احتمال الموت، وأنت تحاول مثلهم، غير أنك تسأل: كيف حدث وجاءت إلينا الحرب مرة أخرى؟ كيف تُمرّر وكأنها حدث طارئ، بينما كنا طيلة شهور، نرى كيف تُصنع، طلقة طلقة، وقذيفة قذيفة، وخطاباً وراء خطاب؟ كيف وجدنا أنفسنا في هذا المشهد، وكل ما حولنا ركام ودخان ونيران؟!

الحرب الآن مغامرة، وتكاد تكون مقامرة بمُقرِّر يقود عربات الموت في الطرق الوعرة، وكل يوم تسقط عربة في أحد الوديان السحيقة، أو يكسر الصخر عجلة لأخرى، فتخرج من المعركة، ومعها تتداعى صُور من فقدوا أعضاء من أجسادهم، أو بيوتهم، أو أرواحهم وأحباءهم. لينكشف المشهد عن جماعات بشرية صارت عاجزة، لا تمتلك من أفقها سوى العدم، ولا تعرف إن كانت ستعيش بكرامة، أم سيُلقى بها في أتون العوز والحاجة.

الحرب تتسع، ونرى كيف أنها أتت في أولى أيامها على مئات الآلاف تشريداً. لن تتوقف عند الحدود التي عرفتها الجولات السابقة. بل تنذر بغايات أكبر بكثير مما مضى، وقد تؤدي إلى تغيير ديموغرافي كبير، طالما أن الإسرائيلي لن يقبل بالعودة إلى ما سبق، من دون إفراغ جنوب الليطاني من سكانه، بعدما جُعِل كل من هؤلاء مقاتلاً أو سنداً للقتال. وفي مثل هذه الظروف، سيكون من الصعب التمييز بين المدني وبين المقاتل، ما يُنتج في المحصلة مساواة بينهما تتكفل بجعل الجميع بؤرة خطر، ما يوجب إبعاد الجميع، وإسرائيل لا تبالي بالتمييز، الكل يعلم أنها لا تبالي.

حدث شيء مشابه في غابر الأيام، حين تقررت الهدنة في الجولان على حساب سكانه، بعد حرب تشرين "التحريرية" العام 1973، وما تبعها من حرب استنزاف. فبات من الجهة السورية، منطقة مفرغة، تجول فيها الريح بين ركام البيوت، ولا يزورها السوريون إلا في أعيادهم الوطنية، بعدما حولها إعلام حافظ الأسد إلى عنوان للانتصار.

كل الجولات السابقة، كانت تنتهي باحتضان شعبي وعربي. لكن يبدو أن الجولة هذه المرة ستنتهي إلى انفضاض شامل، وهذا في حد ذاته بعض من الهزيمة.

في غزة مذبحة مستمرة منذ عام تقريباً، ترتكب فيها الهمجية الإسرائيلية واحداً من أبشع فصول وجودها. ويمكن تصور أن التعطش للإبادة لن يتغير عند حدودها الشمالية، أو في الجولان السوري. هذا ما يدركه المدققون في صور الضحايا. لكن السؤال ما زال يُلحّ: كيف وصل لبنان إلى عتبة المجزرة؟