سيرة نصرالله(6): التحرير

محمد حجيري
الأربعاء   2024/10/09
نصرالله في مناسبات حزبية
لا شك في أن السيد حسن نصرالله كان من الشخصيات النادرة والقليلة والمؤثرة، في سيرته وكايرزماه وقدراته. "مالئ الدنيا وشاغل الناس" بتعبير المتنبي. ومع اغتياله، أصبح بمرتبة الأسطورة – الرمز أكثر مما كان في حياته، فوُصف بـ"حسين عصرنا" مع ما يرمز إليه هذا التوصيف من أهمية.
بعد حلقة أولى، وثانية وثالثة ورابعة، وخامسة، هنا حلقة سادسة من محاولة لكتابة جوانب من سيرة نصرالله، تستند إلى بعض مقابلاته وإلى سيرة قصيرة كتبها يوماً بخط يده لمجلة إيرانية، إضافة إلى مراجع.

في أيلول 1997، كثرت التكهنات والتخمينات، بدءاً من الجانب الإسرائيلي، بأن استشهاد هادي نصرالله، نجل السيد حسن نصرالله في عملية ضد اسرائيل وأسر جثمانه، ينبئ بتسريع عملية تبادل الجثامين بين الحكومة الإسرائيلية والحزب. وكان "الرهان" آنذاك على مشاعر نصرالله الأبوية وتوقعاته بحسب بعض الإعلام بأن "حزب الله" سيكون أكثر مرونة وليونة في شروطه ومتطلباته من أجل تسريع عملية التبادل واستعادة جثمان هادي في أسرع وقت ممكن. لكن الحزب، كما يقول المقربون منه، لم يمنح رفات هادي أي أولوية على تلك الموجودة في أيدي الإسرائيليين، ولذلك لم يتم تسليمها إلا في يونيو/حزيران 1998.

في أيار 1998 جرت الانتخابات البلدية الاختيارية وسيطر "حزب الله" على مفاصل أساسية في عمل القرى والبلدات والمدن، في حزيران ونهاية تموز من العام نفسه، انتخب السيد نصرالله أميناً عاماً للمرة الثالثة. للتمكن من القيام بذلك، كان على "حزب الله" تعديل قانونه الداخلي عبر شطب البند الذي ينص على أنّ الامين العام للحزب لا يمكن انتخابه أكثر من دورتين متتاليتين. وفي أيلول 1998 اعترف "حزب الله" علناً أنه ما عاد يعتمد الرسالة المفتوحة التي أصدرها العام 1985، مصدراً أساسياً في أدبياته. وفي تشرين الثاني من العام نفسه، أصبح اميل لحود، "الرئيس المقاوم" بحسب توصيف "حزب الله"، رئيساً للجمهورية اللبنانية وكان أبرز المشجعين على ثلاثية "جيش وشعب ومقاومة"، وما لبث أن تولى سليم الحص رئاسة الحكومة، ودخل لبنان في أتون صراع بين رأسين وتوجهين، وإعمار ومقاومة، وصيف هادئ وصيف ملتهب.

في أيار 2000، عندما انسحبت إسرائيل من معظم جنوب لبنان والبقاع الغربي، فوجئ وزير الخارجية السوري فاروق الشرع بما يحدث، كأن ما يحصل بالنسبة إليه يخرج عن قواعد الصراع وشعار "وحدة المسار والمصير". ولم يطل الوقت حتى توفي الرئيس السوري حافظ الأسد في 10 حزيران، وتولى نجله بشار السلطة، وبدأ تزايد النفود الإيراني في سوريا، وبدلاً من التحالف صار هناك نوع من الالتحاق، معطوفاً عليه تزايد الإعجاب بنصرالله في الوسط السياسي سوريا. وانعكس ذلك كله في الساحة اللبنانية ونظام الحكم وتبدل الأدوار من ضابط استطلاع إلى آخر، وبدأت المطالبة بخروج أو إعادة الجيش انتشار الجيش السوري في لبنان تطبيقاً لاتفاق الطائف.

ولأنّ الحرب كان ينبغي لها أن تستمرّ إيرانيّاً وسوريّاً كورقة للضغط والتفاوض، لا سيما في مسألة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، سريعاً ما برزت بوصفها حجة لبقاء السلاح وشرعيته وبقاء ثلاثية "جيش وشعب ومقاومة". بل إن القضية أخذت طابعاً ميتافزيقياً وجدلياً، من منطلق أن هذا السلاح وُجد ليبقى، وان المقاومة وُجدت لتبقى حتّى لو تحرّرت هذه مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، فذلك لا يعني نهاية الصراع أو القتال. يُبرّر السلاح في يد حزب الله، بغياب الدولة القوية والجيش القوي ووحدة "المسار والمصير" مع سوريا وعودة اللاجئين الفلسطينيين، وأحياناً يكون السلاح لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر والصلاة في القدس. 

بعد التحرير الذي صار عيداً في 25 أيار، عاد الجنوبيون إلى قراهم وبلداتهم ومملكاتهم، وزرعوا حقولهم وبساتينهم، بنوا بيوتهم بعد سنوات من الاقصاء والتهجير والاعتقال والقتل، وزاد حضور حزب الله واللون الأصفر كثيراً وزاد الاعجاب بشخص الأمين العام. تقلّص حضور اليسار واضمحلت الزعامات التقليدية والعائلية، وتزايدت خطب نصرالله في المناسبات والاحتفالات والتعبئة. كانت كاريزما زعيم حزب الله وقدرته على دمج أدوار القائد العسكري والزعيم السياسي والأيقونة الثقافية والدينية، سبباً في وضعه في مرتبة مختلفة، وأصبح محط أنظار اسرائيل ومراقبتها ويأخذ حيزاً في إعلامها. فهو لم يعمل ضمن نظام فحسب؛ بل ساعد في خلقه. تزايدت المقارنات بينه والأبطال. بدا اسم "نصرالله" أو "السيد" أو "سماحة السيد" جزءاً من مشهد عام، من ثقافة تلفزيونية، من وصايا يومية، يطل الإعلامي أو السياسي ليردّد ما قاله سماحة السيد، وكثيرون يكتبون عنه بشيء من السحر والافتتان.

نشرت صحيفة "الاتحاد" الإماراتية رسماً كاريكاتورياً قارن بين انتصار نصرالله والهالة الأسطورية لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 (حرب يوم الغفران في إسرائيل) ــ وظهرت لافتة تحمل تاريخ 1973 تتبعها لافتة أصغر تحمل تاريخ 2000 على طول الطريق. وورد في مجلة "ماغازين" الأسبوعية اللبنانية الفرنسية "هذا الرجل الكاريزماتي يتمتع بروح مغموسة بالفولاذ. إنه يتعامل بسهولة مع التهديد الدائم الذي من شأنه أن يحطم أعصاب أي مواطن عادي. إنه يعلم أنه في أي لحظة قد تحاول إسرائيل تصفيته هو وعائلته وزوجته وأطفاله... كما كانت الحال مع سلفه السيد عباس الموسوي".

وزرعت صور كبيرة لنصرالله حاملاً بندقية ومرفقة بعبارة "جبروتهم تحت قدميك" وعبارات "إن قوّة العدو أوهن من بيت العنكبوت"، وباتت "ثقافة الفداء" بديهية بين مناصريه ومحازبيه وامتدت إلى حلفائه. ولا تقتصر صور نصرالله على الطرق المؤدية للقرى الجنوبية، بل احتلت مكانة خاصة في منازلها، حيث تبارى الأهالي في عرضها وتزيينها وتأطيرها. ولا يقتصر حضوره على الصور بل يلازم مناصريه في كل شؤون حياتهم، مثل رنّات الهواتف الخليوية التي تقتبس كلمات من خطبه، وانتشرت الاناشيد الحماسية التي تمجد قوته ويسمعها الشبان في بيروت والمناطق.