"من يطفئ النار؟"..سؤال محمد سلمان الذي بقي بلا جواب

أشرف غريب
الثلاثاء   2024/10/29
رغدة وآثار الحكيم في فيلم "مَن يطفئ النار"
النوايا الطيبة لا تصنع بالضرورة أفلاماً جيدة، ولو كانت الأفلام بالنيّات لفاز كثير من المخرجين على مستوى العالم بجوائز الأوسكار من دون النظر إلى مستوى أفلامهم. في العام 1982 عندما كانت بيروت تحت الحصار الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية تلملم أشلاءها استعداداً للرحيل، قدم المخرج محمد سلمان (1922– 1997) فيلما مصرياً عن المأساة اللبنانية عنوانه "من يطفئ النار"، وقام  فيه بكل المهام تقريباً، من تأليف وإخراج وكتابة بعض الأغنيات وتلحين بعضها، ولعل الدور الوحيد الذي لم يقم به في هذا الفيلم هو المشاركة في التمثيل، لكنه استعاض عن ذلك بأن حشد مجموعة من الأسماء الرنانة على رأسهم فريد شوقي ووليد توفيق وآثار الحكيم ورغدة ومديحة يسري وليلى كرم.

يتحدث الفيلم عن حسن (وليد توفيق) ذلك الشاب الجنوبي الذي لا يشغل باله سوى تحقيق حلمين اثنين: دراسة الموسيقي بالقاهرة، والاقتران بحبيبته زينب (رغدة) لكن القصف الإسرائيلي للجنوب اللبناني يأخذ منه حبيبته في ليلة عرسهما، فيقرر السفر إلى القاهرة بحثاً عن حلمه الآخر رغم تمسك أمه به وبالبقاء في الجنوب حتى مع وجود كل هذه الويلات والدمار. وفي مصر تتقاطع خيوط قصته مع خط درامي آخر يمثله الموسيقار الكبير (فريد شوقي) المتخفي عن أعين الناس بعد خروجه من السجن جراء عقوبة قتل زوجته الثانية التي خانته، تاركاً ابنه وابنته مع أمهما التي أخبرتهما منذ الصغر بأن والدهما قد مات.

لم تغب مأساة لبنان عن خاطر حسن ولم يتوقف عن الغناء لها في حفلات معهد الموسيقى العربية أو في حفلة عيد ميلاد إذاعة صوت العرب ممثلاً لبلاده، فقد غنى "يا حبيبي فى المدينة كل أخباري حزينة" من شعر محمد سلمان وألحان بليغ حمدي، وقصيدة "آه زينب" من تأليف الشاعر اللبناني محمد شمس الدين وألحان محمد سلمان أيضاً الذي قام كذلك في هذا الفيلم بتأليف وتلحين أغنية وليد توفيق "طير يا قلبي طير". وفي الوقت ذاته ظل حسن على وفائه لذكرى حبه لزينب حتى أنه انجذب للصحافية المصرية التي تشبه حبيبته والتي قامت رغدة بدورها أيضاً، فيما كانت زميلته في المعهد (آثار الحكيم)، تشعر نحوه بعاطفة حقيقية وهي أيضا ابنة الموسيقار الكبير من دون أن تعرف ذلك.

منذ اللقطة الأولى في الفيلم حيث الانفجارات تهز الجنوب، والقتلى والجرحى يملأون المستشفيات، بدا واضحاً حماس مؤلف ومخرج الفيلم في سرديته السينمائية، ورغبته الصادقة في تقديم فيلم عن المأساة الدائمة في لبنان بين الطائفية الداخلية والعدو الخارجي المتربص به. ورغم خبراته السينمائية المتراكمة في مصر ولبنان منذ أن شارك كممثل العام 1945 في فيلم "الفلوس" من إخراج إبراهيم عمارة قبل أن يقدم أولى تجاربه الإخراجية بفيلم "موعد مع الأمل" العام 1958.

فقد غلب الحماس على المعالجة، وضاعت فكرة مأساة لبنان أو توارت خلف الميلودرامية الزاعقة التي ذكرتنا بأفلام يوسف وهبي وحسن الأمام القديمة، حيث المصادفات القدرية التي تجعل حسن يلتقي فى المنزل بالموسيقار الشهير المتخفي عن أعين الناس، وفي المعهد بزميلته التي هي أيضا ابنة هذا الموسيقار، ثم يصادف أن يقابل حسن الصحافية المصرية صديقة ابنة الموسيقار وشبيهة حبيبته التي استشهدت في الجنوب، فيتولد الصراع العاطفي بين كل هذه الأطراف على خلفية مأساة هذا الفتى الجنوبي القادم إلى مصر يحمل على كتفيه هموم وطن يخاصم الاستقرار ويسكنه الدمار. لكن يبدو أن سلمان، ابن قرية كفر دونين في الجنوب، والذي خلصت نواياه بالتأكيد وهو يقدم هذا الفيلم، انتبه إلى ما يمكن أن تحدثه ميلودرامية الأحداث من تشتت الغرض أو ضياع الهدف. إذ بعدما أتم المشهد المؤثر لتعارف الأب على ابنه وابنته، عاد من حيث بدأ فيلمه إلى صورة من أعلى لبيوت لبنان الحزين وقد شوهها الدمار.

ويهرول الابن إلى حضن أمه يقبل يدها وهي بقيت متمسكة بأرضها وبيتها على خلفية صوت وليد توفيق وهو يغني: "عد إلى قلبي حبيبي، فأنا قلبي جنوبي، وجنوبي قلب لبنان الحزين، كيف أنساه وفي قلبي الأنين، يا حبيبي هل ستبقى في المدينة؟".

وقد التقيت محمد سلمان للمرة الأولى في منزل الممثلة المصرية صابرين العام 1988 وكان يخرج لها آخر أفلامه "أنا والعذاب وهواك"، واسترجعت معه أحداث "من يطفئ النار"، وسألته عن أسباب استغراقه في تلك المصادفات القدرية العاطفية على حساب القضية الأساسية التي من أجلها صنع فيلمه، فأجابني بأنه ترك لبنان العام 1982 وقلبه يحترق من جراء كل ما يحدث، ليجد الشارع المصري يئن من كل ما يجري على أرض لبنان، ومظاهرات طلاب الجامعة تتجاوز أبواب الحرم الجامعي مطالبة بموقف دولي يدين كل آلة الحرب الإسرائيلية، وكذلك كانت الحال في معظم العواصم العربية. ومن هنا فكر في تقديم فيلم عن المأساة اللبنانية، وسعى إلى ترجمة بعض نسخه حتى يصل صوت لبنان إلى العالم، مستشهداً بما جاء على لسان الممثلة ليلى كرم ضمن الفيلم "نحن انبح صوتنا، بلكي صوته يوصل لكل الدنيا"، ونبهني سلمان في تلك الليلة إلى أنه كان في فيلمه يخاطب المشاهد العربي في المقام الأول، والذي اعتاد على الإرث السينمائي المتخم بالمصادفات الميلودرامية، ومن هنا كانت تلك حيلته لاجتذاب المشاهد العربي من المحيط إلى الخليج حتى يستطيع أن إيصال رسالته. 

وبصرف النظر عن قوة حجّته أو وجاهتها، ولئن كان فيلم محمد سلمان لم يجب على أي من التساؤلات التي طرحها في أغنياته من قبيل: "من يطفئ بلد الشمس" أو "يا حبيبي هل ستبقى في المدينة؟ط، فإن الفيلم برمته لم يجب على السؤال الأكبر: مَن يطفئ النار؟ هذا السؤال الباقي منذ 42 عاماًً ينتظر الإجابة.