تجلس ملاك جالسة على الأرض، تفترش كتبها ودفاترها، محاولة اتمام واجباتها وفروضها المدرسة ومتابعتها عبر هاتف والدتها. تحاول التركيز قدر المستطاع، وعزل تفكيرها عن محيطها. النازحون من حولها كثر في مبنى العازارية حيث نزحت. كانت والدتها المنهمكة بهمومها، تتمنى لو يذهب أولادها إلى المدرسة "ويعودون إلى المنزل ساعات بعد الضهر ريثما أكون قد أنهيت واجباتي المنزلية، وحضرت الظروف المناسبة لدراستهم في المنزل". بهذه الكلمات عبرت وداد عساف عن واقعها مع النزوح الذي فرضته الحرب. همها كيف يتابع أطفالها دراستهم قائلة: "لدي خمسة أطفال وهاتف واحد، يتناوبون على استخدامه ليتمكن الجميع من الدراسة".
تتابع ملاك دراستها في الصف الخامس الأساسي متحدية واقعها الصعب. كانت تلميذة في المدرسة العمانية النموذجية الرسمية في منطقة صيدا، التي تحولت إلى مركز إيواء. والدتها وداد، الأم لخمسة أولاد غيرها، نزحت بهم من الجنوب إلى حي الجامعة اللبنانية في الضاحية الجنوبية، هربًا من الأصوات، خصوصًا أن ابنها يعاني من التوحد، ثم اضطرت للنزوح ثانية إلى مبنى اللعازرية في وسط بيروت، هربًا من الموت..
ظروف صعبة على الطلاب وأساتذتهم
وكانت وزارة التربية أطلقت العام الدراسي في التعليم الرسمي في 4 تشرين الثاني، حيث تم تقسيم التعليم بين حضوري وعن بُعد. وهذا التعليم يقوم على ارسال المعلمين مقاطع فيديو أو تسجيلات صوتية عبر تطبيق الواتساب. ويوضح عدد من الأساتذة، أن الظروف صعبة للغاية حتى بالنسبة لهم. وأكدوا أن التعليم عن بُعد في هذه الأوضاع غير فعّال بتاتاً، بدليل أن العديد من الطلاب لم يتسلموا كلمة المرور الخاصة بمنصة "تيمز"، مما يعيق التواصل التعليمي معهم، يلجأون بالتالي لتعليمهم عبر الواتساب. هذا فضلاً عن معاناة الأساتذة أنفسهم من نقص في المعدات التقنية اللازمة للتعليم عن بُعد، مما جعلهم يواجهون تحديات إضافية في مواصلة العملية التعليمية.
في مراكز الإيواء حال الطلاب أشد قسوة من أهاليهم النازحين، في ظل عدم توفر أدنى الوسائل اللازمة للتعليم. فالأولاد يدرسون على الأرض، بلا طاولات ولا كراسي ولا ظروف ملائمة للدراسة. البعض منهم تمكن من الحصول على دفاتر وأقلام، لكن ذلك يظل بعيدًا عن توفير احتياجاتهم الأساسية في بيئة تعليمية صحية. أما عن التكنولوجيا، فلا أجهزة مناسبة للتواصل مع التعليم عن بُعد، والاعتماد هو على الهواتف المحمولة التي لا تكفي غالياً لتلبية احتياجات جميع الأطفال في العائلة.
لا انترنت لا تعليم
تفتقر مراكز الإيواء إلى خدمة الإنترنت، مما يضاعف معاناة الأهل في متابعة الدراسة أونلاين، خاصة في ظل غلاء أسعار باقات الإنترنت. وتقول هناء مسلماني، التي تدرس ابنتها في معهد الآفاق الذي خصص ثلاث حصص دراسية عبر منصة "pokeschool" في الأسبوع: "لم نتمكن من الدخول سوى لدقائق، ثم وصلني إشعار يفيد بأنني صرفت 80 بالمئة من باقة الإنترنت". وتضيف: "ابنتي من المفترض أن تتخرج هذا العام. ليت السنة الدراسية لم تبدأ ولا أرى ابنتي مقهورة. البعض من رفاقها يتابعن دراستهن بظروف أفضل من ظروفها وهذا ما يزعجها".
تختلف أساليب التعليم بين مدرسة وأخرى سواء كانت رسمية أو خاصة. لكن النتيجة واحدة: غياب التعلم الفعلي. فعوضاً عن تواصل الأساتذة مع طلابهم عبر التسجيلات الصوتية، تعتمد مدارس أخرى على إرسال فيديوهات وملفات للدروس عبر تطبيق "الواتساب". وارسال الفيديوهات يزيد الأعباء على الأهل. وتقول ميرفت شحادة، التي يلتحق أولادها الثلاثة بمدرسة الجيل الجديد الخاصة: "نأمل أن تصلنا مساعدات أكثر، كتركيب الإنترنت أو توفير بطاقات تعبئة للإنترنت. أطفالي الثلاثة يدرسون عبر هاتفي، ولا يتمكنون من تحميل جميع الملفات بسبب نفاد الإنترنت".
و تقول سلام، التي فضلت عدم ذكر اسم عائلتها، إن ابنتها كانت تدرس في مدرسة الرضا الخاصة في الضاحية الجنوبية التي تعرضت للقصف. اضطرت إلى متابعة دروسها أونلاين من مقر نزوحها في عكار: "يرسلون الفيديوهات ولدينا الإنترنت، الوضع لا بأس به. عندما يكون الوضع هادئًا، تفتح ابنتي الدروس وتتابعها، لكن الوضع غير مريح، نتمنى العودة إلى البيت والتحاق ابنتي بمدرستها. لا شيء يعادل التعليم الحضوري".
هموم النزوح تعلو على الدرس
في المناطق "المصنفة آمنة" يتابع الطلاب دروسهم حضورياً، فيما مدارس الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية مقفلة. لكن قرار وزارة التربية كان بالسماح لهذه المدارس في المناطق غير الآمنة بتعليم طلابها عن بعد. انطلق العام الدراسي في هذه المدارس متعثراً هذا الأسبوع، ووسط ظروف صعبة على الأهل والأساتذة. فالنازحون يواجهون تحديات يومية لتأمين قوت يومهم أو مصدر رزقهم بعد أن فقدوا كل شيء تقريبًا. ولا يبدو أن بال الأهل منشغل بالتعليم. وفي هذا السياق، يقول حسن ملك، وهو نازح من بلدة بيت ليف، وابنه في السنة الدراسية الأخيرة، في ثانوية كمال سلهب الرسمية: "لا مزاج للدرس، فالانشغال الأساسي هو كيف نوفر الطعام والماء وأين نمضي".
مدرسة ابنه علي تدرّس ثلاثة أيام في الأسبوع عن بعد. ويشرح علي معاناته بمتابعة دروسه: "لا أستطيع متابعة المحاضرات إلا بما ندر، نتيجة واقع النزوح وانقطاع أو ضعف شبكة الانترنت. أحاول أن أركز وأن اتباع مع الأساتذة، لكنني في مركز الإيواء لا أستطيع التركيز ولا حتى الدراسة. وعدم توفر الانترنت يعيق متابعة دروسي. وهذا حال بقية زملائي. عدد قليل جدًا منهم يتابع الدرس. ويضطر الأساتذةأحياناً أحيانًا إلى إلغاء بعض الحصص".
وتتفهم إدارة المدرسة الظروف الصعبة التي الطلاب والأساتذة على حد سواء، يتابع علي كلامه،لكنها تعتبر أن التعليم عن بعد يبقى أفضل من عدمه، مهما كانت الظروف والتحديات".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها