السبت 2024/10/12

آخر تحديث: 12:42 (بيروت)

اللبنانيون يلجؤون إلى قطر عند "الأقارب" يرافقهم الإحساس بالذنب

السبت 2024/10/12
اللبنانيون يلجؤون إلى قطر عند "الأقارب" يرافقهم الإحساس بالذنب
يحمل اللبنانيون صورهم وأوراقهم الثبوتية ويسافرون على أمل ان يجدوا بيوتهم قائمة حين عودتهم (Getty)
increase حجم الخط decrease
 

 

"تظن أنك نجوت، استطعت أن تنقذ أوراقك الثبوتية وصكّ ملكية منزل لا تعرف إن كان سيبقى هناك وصور العائلة أو من تبقى منها، لكنك تخشى على الذكريات، تخاف أن تنسى الصورة الجميلة للوطن، فلا تجرؤ على النظر من الأعلى. لا تريد أن يكون المشهد الأخير مدينة مدمرة تغطي سحب الدخان روعة سمائها"، لذا لم يقوَ الرجل السبعيني على النظر من نافذة الطائرة ليشاهد مدينته تئن تحت وطأة الغارات. وبعد وصوله إلى قطر، وفي لحظة إحساس بالأمان غصّ صوته فصمت وأشاح ببصره بعيدًا والحسرة تملأ قلبه.

لم يتمكن من الإجابة على الأسئلة، واحترمت صمته وشيبته. في تلك اللحظة شعرت للمرة الأولى أنني أفتقد والدي المتوفى منذ أربع سنوات، وأقول في سري "الحمد لله أنه مات ولم يرَ الذي يحصل الآن"، فأنا أدرك أنه لم يكن ليترك بيتنا القديم ومكتبته، فهما كانا كل حياته.

"لوتو" تذاكر الطيران
"كان الحظ حليفي لأني وجدت أماكن شاغرة لوالدتي وأختي وصغيريها إلى الدوحة" تقول رنا التي وصلت باكرًا إلى صالة الانتظار في مطار حمد الدولي في قطر، حيث عشرات الشباب والصبايا والعائلات تترقب وصول رحلة طيران الشرق الأوسط القادمة من بيروت. لم تصدّق ما سمعته من موظفة شركة الطيران عندما بلغتها أن "الرحلة غدًا مساءً والتذاكر جاهزة". شعرت أنها فازت بجائزة اللوتو الكبرى،"غالبية زملائي وأصحابي يتحدثون عن أسعار خيالية لتذاكر الطيران، وعن صعوبة إيجاد حجز قبل أسبوع أو 10 أيام، لذا عندما اتصلت بي الموظفة شعرت أنني ربحت ورقة لوتو". لكنها ظلّت على أعصابها لحين وصول أهلها إلى المطار "كان الوضع مثيرًا للقلق خصوصًا أن غارة أصابت المنطقة المحيطة بالمطار قبل ساعة من مغادرة رحلتهما".
لكنّ الحزن يطغى على نبرتها فتكمل "لكن أخي وزوجته وأطفاله الأربعة ظلوا هناك في منزل أقارب لنا في منطقة عرمون بعد نزوحهم من منزلهم في ضاحية بيروت الجنوبية. أخي مسعف في الدفاع المدني وهو في الخدمة معظم الوقت، وهذا أمر يصيبني بالجنون مع كل غارة، فلا يهدأ قلبي قبل أن أطمئن عليه".

الشعور بالذنب
القلق نفسه كان رفيق ميرا منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على لبنان، فقد عاشت في حالة توتر عصبي إلى أن "وصل أهلي بعد رحلة شاقة من بيروت إلى إسطنبول ومنها إلى الدوحة. أنهكتهما الرحلة والانتظار في المطارات، لكنهم في أمان الآن". كانت تمضي الوقت في مشاهدة الأخبار "متى سيضربون بيروت وأرسم برأسي سيناريوهات كثيرة يمكن الأّ تحصل لكنني كنت خائفة، وحين قالوا ضربوا قلب العاصمة خارج الضاحية أصبت بنوبة ذعر". وعندما حُدد موعد سفر أهلها بدأت نفسية ميرا تتحسّن، لكنها ظلت قلقة من رحلتهما من بيروت إلى المطار، "كنت أعرف أنهما لا يريدان مغادرة منزلهما، وأجبرا على ترك مدينتهما وبلدهما، وضعت نفسي مكانهما، وقدّرت حجم الحزن الذي يعانيان منه". تضيف "هو إحساس لا يحتمل من البشاعة أن تترك كل شيء وراءك وترحل"، خصوصاً بالنسبة إلى والدها الذي ترك جدتها "عمرها 96 سنة وقد اضطر أن يخفي عنها سفره، لذا يشعر بالذنب... وأنا أيضاً مثله أشعر بالذنب لأني أجبرته على المجيء، ولا أدري ما سيكون احساسي إذا حصل لها أي شيء". 

كانت ميرا تشعر أنها ستنفجر باكية عند وصولهما "تخيّلت أنني سأبكي كثيراً لإني كنت أظن أنني لن أراهما ثانية". لكن الأمر كان مختلفًا فهي كانت مسرورة بهما "صرت أشعر بحالة إنكار". تشرح ميرا أنها تشعر بخليط مربك من الأحاسيس، حالها كحال والدتها التي تشعر هنا أن "يديها مربوتطين وأنا لا أريدها أن تشعر بذلك"، لذا تحاول جاهدة العناية بوالديها، علمًا أنه حمل زائد عليها خصوصًا مع ساعات العمل المرهقة.

الذنب يسيطر أيضاً على ندى الموظفة التي تعيش في قطر منذ أكثر من سبع سنوات، فهي قللت من متابعة المستجدات بعد أن كانت تسهر حتى ساعات الصباح الأولى تتلقف الضربات المتلاحقة على الضاحية بالكثير من الخوف على الأهل والجيران والأصحاب "بعد وصول أهلي بدأت أشعر بالارتياح، لكن ما يقلقني أنهم يشعرون بأن وجودهم هنا مؤقت"، مع كل حديث "بكرا بس تخلص الحرب ونرجع" أكثر عبارة يرددها والدي الذي يشعر أنه سيعود إلى لبنان بعد أسبوع أو اثنين. "الأمر أشبه بطفولتنا التي عشناها في الحروب الأهلية والاجتياحات الإسرائيلية للبنان" تقول مختصرة الأمر، "لذا لا أريد لأهلي أن يعيشوا المزيد من الرعب، خصوصًا مع توفر بديل ولو مؤقت لهما". 

حقيبة محملة بالذكريات
أفرغت دلال (70عامًا) صندوقًا مليئًا بالصور في حقيبة سفرها عند استعدادها للمغادرة إلى الدوحة، ولم يكن معها إلاّ القليل من الحاجيات الشخصية لآنها غادرت على عجل بيتها في الشياح عند أطراف الضاحية. "بدي سلامتك توصلي لعنا بالسلامة، وصندوق الصور، ما حدا بيعرف شو رح يصير"، هذا كان كل ما طلبته ابنتها المغتربة منذ 22 سنة: أرشيف الصور العائلية. وها هي المرأة السبعينية تترك بلدها محملة بحقيبة مليئة بالذكريات بدل المونة التي اعتادت حملها لابنتها، تاركة "أولادي الشباب وحدهم تركوا عائلاتهم تغادر لبنان، منهم من سافر إلى تركيا ومنهم إلى قطر، لكن الشباب أصروا على البقاء، وقلبي لا يزال معهم". تغصّ دلال وتتدحرج دمعات متلاحقة على خدّين حفر الزمن عليهما آثار القلق والتوتر وويلات الحروب، وهي التي عاشت عمرها مهجّرة من منزل إلى آخر بين بيروت والجبل والجنوب بسبب الحروب المتلاحقة "لكني لم أتخيّل يوماً أن أترك بيتي وبلدي بهذه الطريقة".
واليوم مع أن دلال تعيش في أمان على وقع الأخبار العاجلة بعد أن عاشت عشرة أيام على وقع الصواريخ تنتهك حرمة مدينتها وبلدها "عندما اسمع خبر القصف أقول الله يحمي أولادي،  ترى هل دُمّر بيتي؟، طيب وبعدين...إلى متى سنبقى هنا؟". ورغم أن كل شيء مؤمن لها في غربتها التي تعتبرها "مؤقتة" إلّا أنها تشعر برغبة عارمة بالعودة اليوم قبل الغد إلى لبنان. 

حياتي ليست أهم من حياتهم
غادرت ليا (22 عامًا) الخريجة الجامعية مع أمها على متن الطائرة المتوجهة إلى قطر ومنها إلى تركيا، لأنها لم تجد رحلة مباشرة إلى إسطنبول. "بينما كنا نجلس في الحافلة استعدادًا للصعود إلى الطائرة، نظرت والدتي في عيني وكان الألم والارتباك يخنقانني، ومع ذلك كل ما استطاعت والدتي رؤيته هو عينان مبللتان بالدمع الذي حول بياضهما إلى احمرار"، تقول ليا. "سألتني إن كان هناك ما يزعجني، فأومأت برأسي بالإيجاب". وبصوت ملؤه القلق سألتني والدتي "على من أنت خائفة؟". الحقيقة كما تشرحها ليا "هي أن الأمر لا يتعلق فقط بمن بل بماذا. لقد تركت أحبائي للبحث عن ملجأ في مكان أكثر أمانًا، لكن حياتي لن تكون ذات أهمية أكبر من حياتهم. إذن من أنا لأتركهم، بينما يتحملون كل هذا العذاب؟".

تكمل ليا بحزن عميق "لقد حزمت حقيبة مليئة بما لا يزيد عن مجرد ذكرى مسقط رأسي، لكن الجوهر سيبقى دائمًا في جذور جدران غرفة نومي، لأنني أينما ذهبت، فإن بيتي سيكون دائمًا  هناك حيث ظهرت سني الأولى، ونشأت لأشاهد أبناء وبنات إخوتي يعيشون التجربة نفسها". وتستطرد "جدي لم يورث عمله الشاق طوال حياته لأبنائه، فقط، ليشاهدوه يحترق ويحل محله الخراب". 

تاريخ "لا صفّي" لجيل حرب جديد
عندما ركض جاد بفرح نحو خالته التي تنتظره في المطار واحتضنها بقوة قائلًا "شكرًا لأنك أتيت بنا إلى هنا"، شعرت بقوتها للحظة، ثم تذكرت باقي أطفال الأسرة الذين ما زالوا هناك. وفي الطريق إلى المنزل بدأ الطفل الذي لم يتمّ العاشرة يخبرها أنه يعلم ما الذي كان يجري في بيروت من غارات وقصف "أعرف إنها غارة وليست جدار الصوت، يقولون لي ذلك كي لا أخاف. أعرف أيضاً أن الدخان سببه القصف وليس حرق النفايات". في الليلة الأولى من وجوده في الدوحة كان الطفل ينتفض بهلع كلما مرّت طائرة مدنية في السماء ويغلق أذنيه بيديه بقوة خشية من دويّها أو ترقبًا، وعندما تحاول الأسرة طمأنته يقول "ظننتها غارة".
كان يفترض أن تبدأ مدرسة جاد بعد أيام، وها هو اليوم يغادر لبنان إلى المجهول "لا أعرف إذا كانت المدرسة ستفتح أبوابها لكن اصدقائي يقولون أنها ستبدأ قريبًا... بس أنا ما فيني روح".

لن يتمكن هذا الطفل ومثله العشرات ممن غادروا، من متابعة الدروس حضوريًا وسيفوتهم الكثير. لكن لا شكّ أن تاريخًا "لاصفّي" حفر في ذاكرتهم إلى الأبد، بعد أن باتوا يحملون صفة "جيل الحرب الجديد"، وبعد أن تجرّعوا وجع الخوف ومرارة النزوح لأيام داخل الوطن واليوم خارجه إلى أجل غير معلوم.

كان نصيب الواصلين إلى قطر أفضل بكثير من سواهم ممن اضطر لافتراش الأرصفة بعد النزوح، فالغالبية العظمى منهم لجأت إلى عائلاتها أو أقاربها هناك، ومع ذلك فهم يشعرون بالقلق من مصير مجهول، ومن غدٍ ليس بمضمون، فهل ستطول رحلة النزوح؟  ويبقى السؤال الشهير الذي يفكّر به الجميع، ويسأله الأهل في غربتهم المؤقتة "ماذا لو طالت الحرب؟ ماذا لو تدمر المنزل؟ ماذا عن الغد؟"... أسئلة تحمل الضياع وتلخّص واقعًا مريرًا بعبارة "شو رح يصير فينا؟".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها