مثير للسخرية المُرّة، أن يتم تصدير مشهد خاتمة حوت أعمال مقرّب من النظام لسنوات، على أنه نتيجة غضب بشار الأسد من "مخالفة بناء" قام بها هذا "الحوت". ففي البلد الذي باتت أبنيته السكنية تُقصف بشكل روتيني، في أحياء داخل العاصمة، ويسقط جراء ذلك ضحايا مدنيون، يصدر في الوقت نفسه حكم قضائي بالسجن خمس سنوات وبغرامة مالية (900 مليون ليرة سورية)، بحق رجل الأعمال، وسيم قطّان، جراء حفر قبو بصورة مخالفة، تسبب بتهدم شرفات بناء في حي المالكي الراقي، بدمشق.
وهذا دأب "مؤسسات الدولة السورية". فهي معدومة الفاعلية في مناطق، وعالية الفاعلية في أخرى. وفاعلة في أزمان، ومفعول بها في أخرى. ففي المزة ومنطقة القصير بريف حمص، تبدو "الدولة" عاجزة وأقرب للحياد في الحرب الإسرائيلية على حزب الله والحرس الثوري الإيراني، التي تتم على الأراضي السورية، وعلى حساب مدنيين سوريين. فيما نجد هذه "الدولة" ذاتها، فاعلة قضائياً، في ملاحقة مخالفة بناء في حي المالكي غير البعيد من منطقة المزة المستهدفة إسرائيلياً، بصورة شبه يومية. وفيما تحولت "الدولة" عبر "القضاء" إلى سيف على رقبة وسيم قطّان، منذ خريف 2023، كانت قبل ذلك التاريخ رجوعاً إلى العام 2017، طيّعة في خدمته، حتى أن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك حلّت غرفة تجارة ريف دمشق عام 2018، بصورة غير مبررة، لتشكّل لجنة لتصريف أعمال الغرفة، برئاسة وسيم قطّان ذاته. الذي أصبح بعد ذلك بثلاث سنوات، أمين سرّ غرفة تجارة دمشق.
في تلك الحقبة الممتدة بين عامي 2017 و2023، صعد نجم وسيم قطّان في مجتمع الأعمال السوري سريعاً. وبدا وكأن الرجل قادمٌ من العدم. إذ لا خلفية تجارية سابقة له. ولا ينتمي إلى عائلة من البرجوازية الدمشقية مثلاً. لكنه استطاع بين عامي 2017 و2019 أن ينفق ملايين الدولارات في استثمار مجمعات تجارية وفندقية وعقارية تعود ملكيتها للدولة. حيث رست عقود الاستثمار عليه بصورة مثيرة للجدل، كالمعتاد في "دولة الأسد". قبل أن يتصدّر العمل المؤسسي الخاص بتجار دمشق وريفها.
وحُكي الكثير في محاولة تفسير الصعود السريع والمفاجئ لنجم الأعمال الشاب، الذي كان في مطلع الأربعينات من عمره فقط، حينما أخرج من جعبته ثروة كبيرة. وبهذا الصدد، تبدو الخلفية الوحيدة المؤكَدة حوله، أنه كان موظفاً في شركة الاتصالات "سيرتيل"، التي كان يملكها رامي مخلوف، ابن خال الأسد، وعرّاب اقتصاد العائلة الحاكمة حتى العام 2020. مما جعل معظم التفسيرات تنحو إلى أنه ربيب مخلوف، قبل أن يصبح أحد أدوات إدارة التركة المنزوعة من قبضته. لكن تفسيرات لاحقة ربطت بين وسيم قطّان وماهر الأسد. وجعلت الأول واحداً من مسؤولي تبييض إيرادات "الاقتصاد الأسود" لقائد الفرقة الرابعة.
لكن، بعيداً عن تصنيفات رجال الأعمال المدعومين في سوريا، بين رجال ماهر ورجال بشار، لا يمكن تفسير طواعية "مؤسسات الدولة" في خدمة صعود وسيم قطّان، قبل خريف العام 2023، إلا بوصفها تأكيداً على أن الرجل كان محط قبول بشار الأسد، شخصياً. هذا القبول الذي فقده الرجل بعد التاريخ المشار إليه، ليصبح هدف "مؤسسات الدولة" ذاتها.
وفي تفسير خسارة وسيم قطّان لقبول بشار الأسد، فرضيات عدّة. أكثرها شيوعاً اليوم، هي التي تقول إن قطّان ضحية خلاف متصاعد بين الشقيقين، بشار وماهر. ويصعب نفي هذه الفرضية، كما يصعب تأكيدها، في الوقت الراهن. فيما تذهب فرضية أخرى إلى استدعاء استراتيجية تغيير الوجوه والأدوات في شبكات النظام الاقتصادية، والتي يعتمدها للالتفاف على العقوبات الغربية. وهو تفسير يصعب اعتماده نظراً لأن وسيم قطّان مُعاقب أميركياً، بموجب قانون "قيصر"، منذ صيف العام 2020. فيما إخراجه من قائمة أدوات النظام تأخر لأكثر من ثلاث سنوات تالية.
وتذهب فرضية ثالثة إلى استراتيجية "قصقصة" أجنحة كل شخصية طموحة، تحاول تجاوز السقوف المحددة لها بوصفها أداة من أدوات النظام. وهو المصير الذي لاقاه أمير الحرب، خضر علي طاهر –أبو علي خضر- الذي خسر غطاءه مطلع العام الجاري، وخرج من المعادلة تماماً. وقبله، أسماء عديدة، منها على سبيل الذكر لا الحصر، أيمن جابر، صهر آل الأسد، "لورد ميناء اللاذقية" سابقاً.
أما أكثر الفرضيات ابتذالاً، هي تلك التي تقول إن بشار الأسد زار البناء المتضرر جراء أعمال الحفر غير المرخّصة التي قام بها وسيم قطّان، أسفله، وذلك قبل نحو عام من اليوم. حيث التقى عدداً من الأهالي واستمع منهم عن تفاصيل الحادثة، قبل أن يأمر أحد الضباط المرافقين له بمتابعة التحقيقات التي كانت تجريها محافظة دمشق بهذا الشأن، ومحاسبة المتورطين في الحادثة أياً كانت مناصبهم وارتباطاتهم. ونحن هنا، لا ننفي الحادثة ذاتها، أي استخدام بشار الأسد تضرر البناء كذريعة لاستهداف قطّان قضائياً. وإنما نستبعد أن يكون هذا هو السبب العميق لاستهداف الرجل، الذي بقي لسنوات محط قبول رأس النظام.
هل هو صراع بين الشقيقين؟ يصعب أن نجزم بهذا الخصوص اليوم. لكن ما نستطيع أن نجزم به أن بشار الأسد الذي سمح بتغوّل أسماء مثل وسيم قطّان وأبو علي خضر وأيمن جابر، في مرحلة، وسلّط سيف "الدولة" عليهم، في مرحلة أخرى، لا يمكن أن يعاقب إحدى أدواته، جراء "مخالفة بناء"، فقط.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها