الثلاثاء 2024/10/22

آخر تحديث: 10:41 (بيروت)

مقال لمن ليس لديه جواب

الثلاثاء 2024/10/22
مقال لمن ليس لديه جواب
"اكتشاف" إسرائيل كما حدث في التسعينات بات متقادماً (Getty)
increase حجم الخط decrease

على هامش المقتلة الحثيثة في غزة، ثم في لبنان، لا يندر اندلاع جدل "دمويّ" هنا وهناك. أطراف الجدل لديهم فائض من اليقينيات، وفائض من مزاعم فهمهم خصومَهم الفكريين، فلا يحتاجون التوقف عند الأفكار الخاصة بهم. هكذا، لا يندر أيضاً (بفعل هذا الجدل) أن تتقادم المقتلة ذاتها، فإسرائيل هي إسرائيل كما كانت دائماً، والمقاومة (حسب أنصارها) هي المقاومة كما كانت، أو كما يجب أن تكون، بينما هي تكثيف لـ"أخطائنا" أو "خطايانا"، حسب خصومها.

خلال أكثر من سنة لم يتقدّم طرف من أطراف الجدل إلى الأمام، إلى أَمَامه الخاص لا في اتجاه ملاقاة الخصم الفكري، وليس مطلوباً منه في الأصل أن يعمد إلى ملاقاة الخصم وفق تصوّر رومانسي أو ساذج عن غاية الجدل. المقصود أن يعمد أصحاب القناعات إلى مراجعتها. لا بهدف الانقلاب عليها، وإنما من أجل تحديثها وجعلها تساير ما يستجد في الواقع. وهو طموح يتواضع عن محاولة استباق الأحداث بوعيها سلفاً، والمساهمة في صنعها.

الأفكار المتداولة ضمن حيز واسع من الجدل، تعود بمعظم أصولها إلى ثلاثة عقود أو أكثر؛ تاريخ تسعينات القرن الماضي مركزي فيها، فقد شهدت تلك الحقبة انقساماً بين متمسكّين بأيديولوجيات وآخرين تحرروا من سطوتها مع تحرر العالم بأسره من انقسامات الحرب الباردة. وقتها بدا كأنّ العالم القديم توارى من أجل عالم أكثر انفتاحاً، وأكثر تضامناً وتعاوناً وديموقراطية.

كان من المأمول في تلك الفترة أن تتقدّم قضايا الحريات والديموقراطية في بلدان المنطقة العربية، على وقع تقدّمها في العالم، وأيضاً بسبب قناعة رائجة مفادها أن الغرب (الذي كسب الحرب الباردة) يريد ترويج الديموقراطية. تلك القناعة انطوت في العديد من الأحيان على توقع المساعدة من الغرب في حال انتفض شعب من شعوب المنطقة لنيل الحرية والديموقراطية. وذهبت قلّة إلى الإيمان بأن الغرب نفسه سيتولى إزاحة أنظمة الاستبداد في المنطقة. في الغرب ذاته، مع نشوة الانتصار، برزت قيادات مبشِّرة على غرار بيل كلينتون، الذي أتى بعد حقبة الصقور التي رمز إليها رونالد ريغان، ومثله توني بلير الذي أنهى حقبة مارغريت تاتشر وذيولها في بريطانيا.

يمكن القول إن الأفكار المتفائلة بالتحول العالمي استمرت حتى ثورات الربيع العربي، وكانت القناعة الشائعة لدى نسبة كبيرة من شباب الثورات وشعوب المنطقة هي أن الغرب سيساندها بقوة، حتى إذا لم يفعل ذلك بالقوة المباشرة. الموقف الغربي الفعلي لم يطابق المتوقَّع منه. فلم يكن مبدئياً، وساند بعضَ الثورات بينما تواطأ على الإبقاء على الحكم في حالات أخرى، أبرزها الإبقاء على بشار الأسد، الذي أُتيح له أن يكون الأكثر دموية بين أقرانه.

سيكون من السهل استيراد الخطاب الذي يتهم الغرب بالازدواجية أو بالنفاق، من أجل لومه على خلاصة مواقفه من ثورات الربيع العربي، مثلما سيكون من السهل على البعض ردّ الفشل إلى كون المجتمعات العربية غير جاهزة بعدُ للديموقراطية، أو غير قابلة إطلاقاً لتكون ديموقراطية. الاستسهال غيَّب التفكير في متغيرات دولية تستحق الانتباه، وفي رأسها أن الغرب كان مع بدء القرن الحالي قد تغيّر، وتراجع عن التبشير الديموقراطي بعدما أنجز مهمته في أوروبا.

لم يكن من السذاجة أن يرى البعضُ المنطقةَ العربية جزءاً من العالم ونزوعه إلى الديموقراطية. لكنّ العالم تغيّر، والتغيرات لم تأخذ حقها من التفكير. المنطقة أيضاً تغيّرت مع انتكاسة ثورات الربيع العربي، المتصلة ولو جزئياً بالتغيرات الدولية، ما يعيد طرح سؤال الديموقراطية على نحو مغاير لما كان عليه في التسعينات وفي العقد الأول من هذا القرن.

في التسعينات أيضاً، برزت الأصوات التي تدعو إلى اكتشاف إسرائيل، خارج الصورة التقليدية التي تتوقف عند توصيفها بالشرّ المطلق الذي لا لزوم لمعرفته. تلك الأصوات كانت مسنودة بعملية السلام التي انطلقت مع الأجواء الإيجابية لعالم ما بعد الحرب الباردة، وكانت مسنودة أيضاً بتوسع معسكر السلام ضمن إسرائيل نفسها. عامل ثالث، ربما دعم هذا التوجه، تجلى في إعادة النظر بالحقبة الاستعمارية، وتخليصها من وصمة الشر المطلق، وصولاً إلى اعتبارها خيراً بالمقارنة مع أنظمة الاستبداد "الوطني" اللاحقة على الاستعمار.

انحسر معسكر السلام الإسرائيلي، وعملياً انتهت عملية السلام بعد موجة تقدّمها الأولى، ولم تعد لها مساندة دولية. في حين عادت مشاريع الاستيطان لتتقدم على نحو لا ينذر فقط بالقضاء على منجزات السلام، بل بالقضاء على أي وجود لشعب فلسطيني. أي أن اكتشاف إسرائيل كما حدث في التسعينات بات متقادماً، وكذلك حال مديح الاستعمار الذي أدّى المُراد منه في هجاء الاستبداد اللاحق عليه.

لقد عبّرت الأفكار السابقة جميعاً، في التسعينات، عن تطلّع إلى أفق معرفي أرحب، وعن التمرّد على كليشيهات وشعارات سادت من قبلُ لعقود. تلك الكليشيهات قدّمت مادةً للسخرية للجديد المختال بنفسه، ثم أضحت السخرية عماد النسخة الشعبوية من ذاك الجديد. بالأحرى يجدر الحديث عمّا كان جديداً أو معاصراً في زمنه، وحيث أنه لم يتطور رغم توالي المتغيرات. فهو قد فقد ميزة الجدّة التي كانت له، إلا أن أصحابه ظلوا مصرّين عليها مسنودين بتقدّمهم على عقلية الشعارات التي لم تنقرض.

من وجهة النظر الأخيرة، يكون الإنجاز الوحيد للّذي كان جديداً في التسعينات هو تقدّمه على النسخة الركيكة من الخصم؛ الخصم الذي يُفترض أن القطيعة حدثت مع مفاهيمه. وبهذا المعنى لا يجب أن يبقى معياراً يتم الاستقواء به وعليه. ويكون أيضاً بقاء الجديد المزعوم هو بسبب بقاء ما هو أقدم منه، على علات الثاني منهما، ثم على علاتهما منفصلين ومعاً.

في التسعينيات كان من مآخذ الجديد على القديم أنه يقينيٌّ، غير شكّاك تجاه نفسه رغم توالي هزائمه، لديه أجوبة وليس لديه أسئلة... إلخ. وسيكون من المستغرب، مع توالي الإخفاقات والهزائم، أن يصبح الجديد أقلّ تشككاً في قناعاته، وأن يجعله ثباتُه صاحبَ أجوبة هي ابنة الاختزالات اليقينية، والتي غالباً ما تُعلي من شأن الهدف، ولا تقول شيئاً ذا قيمة عن الطريق إليه، أو في الطريق إليه إذا كان السعي ممكناً.

واحدة من علائم التردّي الحالي أن يُنظر إلى بضاعة التسعينات على أنها معاصرة، وأن يُعاد إنتاجها بخيلاء وكأنها تُخترَع للتوّ، ويحدث ذلك على نحو شعبوي يعوزه نبل المقاصد. هذا جزء فقط من الخسارة الكبرى المتعيِّنة بوجود كمّ كبير من الأجوبة. والحق أننا مع حصيلة هذا الكمّ الكبير، من هنا وهناك، أشدّ اطمئناناً من أي وقت رغم الخسارات الباهظة. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها