الأربعاء 2024/10/16

آخر تحديث: 10:58 (بيروت)

اقتصاد حرب.. مصر نموذجاً

الأربعاء 2024/10/16
اقتصاد حرب.. مصر نموذجاً
فرض برامج اقتصادية شديدة القسوة على الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع (Getty)
increase حجم الخط decrease

في ذكرى حرب أكتوبر العام 1973، يلوح الرئيس الوزراء المصري بإعلان "اقتصاد الحرب"، حال تدهورت الأوضاع الإقليمية في المنطقة. بعد مرور خمسين عاماً منذ الحرب الأخيرة التي خاضتها مصر مع إسرائيل أو غيرها، تجتر الحكومة المصرية اصطلاحات الماضي البعيد، وتعيد إلى الأذهان ذاكرة "اقتصاد المعركة" و"سندات الجهاد" من جعبة مطلع السبعينات.

والواقع، أن الحرب الدائرة في الجوار ألقت بظلالها بالفعل على الاقتصاد المصري المعتل بشكل مزمن، ويظهر أن الأثر للمعارك الأكبر لم يأت من غزة المجاورة، بل من هجمات الحوثيين على خطوط الملاحة البحرية، ما دفع شركات الشحن لتغيير مساراتها. وعلى إثر ذلك، فقدت قناة السويس ما يقرب من نصف دخلها. ولطالما كان دخل القناة أحد مصادر العملة الصعبة التي عولت عليها الموازنة المصرية، بوصفها بنداً مضموناً.
وفي الصيف الماضي، كان لاضطراب توريدات الغاز من إسرائيل تبعات مباشرة على شبكة الكهرباء المصرية، وأجبرت الحكومة على تطبيق خطة لتخفيف الأحمال. ومن المتوقع أن الجولة المقبلة من الضربات المتبادلة بين إيران وإسرائيل، وهي الأكثر جدية وخطورة، ستدفع أسعار النفط إلى أعلى، ومعها بالضرورة معدلات التضخم المحلية، ولاسيما أن فاتورة استيراد مصر للنفط قد ارتفعت بأكثر من عشرة بالمئة في التسعة أشهر الماضية.

من جانب آخر، كان للحرب أثراً إيجابياً، ولو بشكل رمزي. فبفضل الموقف المصري المهادن من مجرياتها، أخطرت الخارجية الأميركية الكونغرس أنها ستقدم المعونة العسكرية لمصر بكامل قيمتها البالغة 1.3 مليار دولار، وذلك لأول مرة منذ تولي بايدن للرئاسة العام 2020، بعد أن كانت تحجب نسبة منها بسبب ملف حقوق الإنسان.

ومع الأخذ في الاعتبار كل تلك التبعات، فإنها تبدو في المحصلة الإجمالية محدودة، ولا تحسب إلا بمعيار الآثار الجانبية للحرب القريبة. وعلى الأرجح، هي أقل وطأة من الأثر الكوكبي للحرب الأوكرانية الأبعد جغرافياً.

المدهش والمؤسف بالقدر ذاته هو أنه بعد نصف قرن من خيار "السلام" والانفتاح على اقتصاد السوق والعمل بحسب توصيات صندوق النقد وبرامجه الإصلاحية، ترتكس الحكومة المصرية بلاغياً إلى لغة اقتصاد الحرب، وبحجة حرب لم تطلق فيها رصاصة واحدة. والحال أن مجاز الحرب، وسياسات الحرب ليست عنصراً طارئاً على منهج الحكم في مصر، بل لعله أحد الأركان الأساسية للسلطة وخطابها منذ إعلان الجمهورية.

في الماضي، حيث خاضت مصر سلسلة من الحروب مع إسرائيل، بل وفي واحدة منها مع بريطانيا وفرنسا أيضاً، وفي ظل حرب استنزاف طويلة دارت بين حربي 1967 و1973، كان تعطيل الطموحات الديمقراطية وتجميد الحريات العامة مبرراً بحكم شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة".
أما من ناحية الاقتصاد، فصارت أحكام التقشف هي الحالة المعتمدة للحياة اليومية، لا الاستثناء. وعلى النهج نفسه في سياقات مختلفة، وخلال عقود مبارك الطويلة، كانت الحرب على الإرهاب، التي أطلق عليها مسميات شتى، مبرراً لدوام حالة الطوارئ معلنة بلا انقطاع، واستتبع ذلك تعليقاً مزمناً للحريات الأساسية ولمجمل حكم القانون الاعتيادي. ومن الناحية الاقتصادية، كان الاستهداف الدوري للسياحة من قبل الجماعات الجهادية المسلحة عنواناً لاقتصاد حرب غير معلن.

لم يحيد نظام الثلاثين من يونيو، عن تلك التقاليد الراسخة لمنهج الحكم. استدعت "الجمهورية الجديدة" المؤسسة على مذبحة أهلية لغةَ الحرب، الحرب ضد جماعة الإخوان وعلى الإرهاب كالعادة، وفي مواجهة حروب "الجيل الرابع" و"الجيل الخامس" وولاية سيناء، وفي جوار الحرب الأهلية الخافتة في ليبيا والحرب في السودان جنوباً، والحرب المائية الجارية دبلوماسياً مع أثيوبيا، قبل أن تتحول لتكشير أنياب عسكري مؤخراً في الصومال. وكأن من شأن استخدام تلك اللغة، تبرير مستويات غير مسبوقة من القمع السياسي، وفرض برامج اقتصادية شديدة القسوة على الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع. وبلا شك تقع مصر في منطقة مضطربة وتواجها تحديات إقليمية مستمرة، لكن الحرب الوحيدة التي تخوضها حكومتها بتلك الحجج هي ضد المجتمع.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها