دأب رئيس حكومة العراق حيدر العبادي على تصوير نفسه متمايزا عن سلفه نوري المالكي، معتدلا في مواقفه، منفتحا على غير الشيعة من العراقيين، متمايزا عن طهران وولاية الفقيه ومتمسكا بمرجعية النجف الشيعية بديلا، شفافا عفيفا يكره الفساد والفاسدين، مندفعا لتكريس استقلالية العراق عن المحاور الاقليمية والدولية المتصارعة بمحافظته على صداقة مع كل الاطراف ووقوفه على الحياد في صراعاتها.
والمراسلات الديبلوماسية لوزارة الخارجية الاميركية تظهر انها وجهت كتابا الى الحكومة العراقية في الخامس من الجاري، طلبت فيه واشنطن من بغداد رفض الموافقة على منح موسكو اذونات مرور جوية لعبور طائرات شحن روسية الاجواء العراقية باتجاه دمشق. وكانت موسكو طلبت من بغداد اذن مرور لشحنات السلاح والعسكر التي ترسلها جوا الى الرئيس السوري بشار الأسد، بعدما اغلقت بلغاريا واليونان اجواءها امام الشحنات الروسية المتجهة للأسد.
وقصة فتح المجال الجوي العراقي لمرور طائرات سلاح ايرانية متجهة للأسد سبق ان اثارت حنق جون كيري يوم كان ما يزال رئيسا للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ. وقام السناتور كيري في العام ٢٠١١ بتوجيه انتقادات لاذعة للرئيس باراك أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بسبب سماح المالكي للطائرات الايرانية بتسليح الأسد. وقتذاك، تذرعت ادارة أوباما ان لا قدرة لحكومة العراق على اعتراض الطائرات الايرانية، فأجاب السناتور كيري انه بموجب معاهدة التحالف والتعاون العسكري بين أميركا والعراق، يمكن لبغداد تحذير طهران، ثم الطلب الى المقاتلات الاميركية فرض اقفال الاجواء العراقية.
وللالتفاف على غضب كيري، ابتكر المالكي طريقة تقضي بأن تحطّ الطائرات الايرانية في مطار بغداد الدولي حيث تفرغ حمولتها ويتم تحميلها على متن طائرات عراقية تطير الى دمشق. وقبل اسابيع قليلة، رفض احد الضباط المناوبين في مطار بغداد السماح بنقل صناديق السلاح والذخيرة من طائرات ايرانية الى عراقية من دون تفتيشها، فحصلت بلبلة حسمها العبادي بمنع التفتيش.
اما الشحنات الروسية الى الأسد عبر الاجواء العراقية، فهي اكثر تعقيدا ويصعب ان تفرغ حمولتها في بغداد، بسبب نوعيتها وحجمها، اذ رصدت التقارير الاميركية وجود مقاتلات روسية، وست دبابات، وابراج مراقبة جوية متنقلة، وطائرات من دون طيار في مطار يبدو ان الروس عازمون على انشائه جنوب اللاذقية، التي يسيطر عليها نظام الأسد.
مرة اخرى، طلب الاميركيون من العراق اغلاق مجاله الجوي امام "اي شحنات تسليح متجهة الى سوريا، لأي من الاطراف، لتفادي وقوع المزيد من الدماء والدمار". وعرض الاميركيون تفعيل تحالفهم مع العراق لرصد الخروقات الايرانية و الروسية، لكن واشنطن لم تسمع اي رد من العبادي.
وقبل اسابيع، كان العبادي عمد على تسريب اقوال تظهر انه تمرد على حاكم العراق الايراني الجنرال قاسم سليماني اثناء لقاء للتحالف الوطني، اي الكتلة البرلمانية الشيعية، وان سليماني خرج من اللقاء منزعجا. كما جاءت من ناحية العبادي تقارير تفيد ان مرجع النجف السيد علي السيستاني وجه كتابا الى طهران طالبا كف يدها ويد سليماني، الذي يقود جيشا مؤلفا من ميليشيات شيعية معروفة بالحشد الشعبي، عن شؤون العراق.
وفي الاثناء، عمد العبادي الى اظهار تمايزه عن التحالف العراقي الشيعي الذي تقوده ايران، فأصدر رزمة اصلاحات بتأييد المرجعية، واطاح بـ ١٢٣ وكيل وزارة (معظمهم من ازلام المالكي)، وخفض من حمايات الشخصيات. اما الخطوة الابرز، فتمثلت بقضائه على منصب نائب رئيس الجمهورية، ما حوّل سلفه وغريمه المالكي الى مجرد نائب في البرلمان.
لكن كل الصورة التي يحاول العبادي رسمها عن نفسه لا تشي بأنه مختلف عن المالكي، فسماح العبادي لشحنات السلاح الايرانية والروسية الى الأسد عبر اجواء العراق، وفتحه مخازن السلاح الحكومية العراقية للميليشيات التي يقودها سليماني والتي تقاتل في العراق وفي سوريا، وسماحه بتمويل مقاتلي هذه الميليشيات من خزينة العراق، ودفاعه عن هذه الميليشيات اثناء زيارته واشنطن ولقائه الرئيس باراك أوباما، ومهاجمته التحالف العربي الذي يشن حملة ضد المتمردين الحوثيين في اليمن اثناء زيارته نفسها، كلها خطوات تظهر انه في الحسابات الاستراتيجية والاقليمية، لا يقف العبادي محايدا، بل هو في المحور الروسي - الايراني الداعم للأسد والحوثيين.
اما داخل العراق، فلا يشكل التباين المزعوم عن ايران وسليماني دلالة على استقلالية العبادي، فسلفه المالكي رفض في الماضي طلب ايران تشكيل لائحة انتخابية شيعية موحدة عندما كان رئيسا للحكومة، واقام لائحة خاصة به تحدى فيها ايران وجماعتها، ليتبين في ما بعد انه خلاف أهلي محلي، وانه عند المنعطفات الكبرى، التصق المالكي بايران وبسليماني، وراح يحاول دفع ايران للانقضاض على غريمه العبادي، الذي ورث من المالكي المرجعية الشيعية والحكومة في بغداد.
العبادي في محور ايران وروسيا والاسد، وهو يستخدم صراعاته المحلية الشيعية للايحاء باستقلاليته، تماما كما فعل المالكي قبله. وكما المالكي، ما زال العبادي يرفض تسليح أميركا المباشر للبيشمركة، وهو اسقط محاولة اقامة "حرس وطني" مؤلف من عشائر غرب العراق.
اما تمجيد اميركا للعبادي كحليفها المستقل عن ايران، بالرغم من عدم التزامه بأي من طلباتها اليه الاقليمية والمحلية، فهو كمثل المديح الذي اغدقته واشنطن يوما على المالكي، ثم انصرفت عنه يوم انصرفت عنه ايران.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها