الأحد 2024/10/06

آخر تحديث: 14:26 (بيروت)

خرائط موت الضاحية

الأحد 2024/10/06
خرائط موت الضاحية
غارات اسرائيلية تستهدف الضاحية الجنوبية فجر الأحد (جورج فرح)
increase حجم الخط decrease
بات منتصف الليل موعداً يومياً لمشاهدة الموت. فيلم سينمائي يومي، تكتبه إسرائيل وتخرجه. اختارت الضاحية الجنوبية لبيروت، موقعاً للتصوير. أما العرض، فهو مباشر، على مدرج يتسع للملايين، يبدأ من جيران الضاحية، ولا ينتهي بمشاهدي القنوات التلفزيونية وفيديوهات "واتسآب". 


للمرة الأولى في التاريخ، يكون العرض حياً وتفاعلياً. يختلط فيه الخوف والحسرة والتأثر، مع مشاعر الألم والتوق للنجاة. ثمة من يتواجد على مسرح الحدث، يستعجل المغادرة. وثمة من يشاهد بالصوت والصورة، ويشعر بهول القصف... ويتدرج المسرح صعوداً الى أقضية بعبدا وعاليه والشوف والمتن وكسروان، مروراً بمحافظة بيروت، ويسمع ويرى مشاهدوه، حسب بُعدهم والتصاقهم بالحدث، ويتألمون حسب مدى صلتهم بالمكان. 
وهي المرة الاولى في التاريخ، لأن اكتمال العناصر تلك، لا ينطبق على حدث رياضي تنقله قنوات العالم ومنصاته.. ولا على حدث سياسي ينتظره المشاهدون، ولا على حرب كانت تُنقل من جهة واحدة، مثل حرب العراق، تتيح لهم مشاهدة الصواريخ أثناء تساقطها على الرؤوس والأهداف. 


وخرائط الموت التي يبثها الجيش الاسرائيلي، أكملت عناصر "المرة الأولى". في مطالعتها، ينخرط الناس في الحدث. يتفقدون منازلهم قبل تدميرها، وينتظرون سقوط الصواريخ عليها، ويبحثون عن أي مقطع فيديو يوثق لحظة استهدافها. 
والمنازل، هي حبيب مشترك، لا يتفرد في عشقه فرد. من يحب، يعتني باللحظات الاخيرة. بتفاصيل الموت. يراقب ابتسامة حبيبه لحظة منازعته. منازل الضاحية، بهذا المعنى، حبيب يموت. روح تتصاعد مع ألسنة اللهب. حيوات تتساقط، وتسمو على شكل دخان. هي عمر يتهاوى على الشاشات، ويستحيل ماضياً جميلاً. عمرٌ يُغرس بصاروخ يثير التكهنات حول أصله وفصله وقوته التدميرية. ويتكرر المشهد ليصبح الحنين وجعاً، حسب ما يصوّره محمود درويش في كتابه "كزهر اللوز أو أبعد".. ويمضي بين اللهب والمجهول. 


لبيوت الضاحية أعمار، كما ناسها. نجا كثيرون بأرواحهم تشرداً بين المآوي والساحات وبيوت الضيافة. لكن أعماراً أخرى، لا تزال تحت الألم. بيوت الضاحية، كما ناسها. "منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر".. وكما أفرادها، بعضهم يقاوم، وبعضهم يصمد، وبعضهم يستشهد... 
على مدى 6 ليالٍ، تتكرر فيديوهات العدوان الاسرائيلي، والتعليمات والتحذيرات والتكنهات. "أي شارع؟"، و"أي مبنى؟" و"كم يبعد عن منزلي؟".. تتكرر الأسئلة، فيما هناك صاروخ يمزق الخريطة المسافرة عبر منصة "اكس"، وينزل الأحاجي في مجموعات "واتسآب". من يمتلك الاجابة فهو الخبير. ومن يمتلك الحقيقة، هو البطل. ومن يمتلك الصورة، ممن يعبرون الأزقة على دراجات نارية مسرعة، فهو "الانتحاري" و"الاستشهادي". 
تمزق الغارات الخريطة، مثلما تطعن الخناجر في التاريخ. للضاحية تاريخ، من حزام البؤس ومثال الفوارق الطبقية، الى حاضنة الميسورين والمغتربين والطبقة المتوسطة والبورجوازية الشيعية الجديدة. لم تبقِ الغارات الليلية منها ما يفرق بين الأحياء. "كل شيء مستهدف"، حسبما تفيد خريطة الموت، لكنها لا تمنع الذكريات، ولا معالم حياة كانت جزءاً من مرحلة ظنّ كثيرون أنها مستدامة، قبل أن تطعنها اسرائيل، كما طعنت غزة وجنوب لبنان وبقاعه.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها