باتت قيمة احتياطات الذهب، توازي اليوم أكثر من 25.62 مليار دولار أميركي، مقارنة بنحو 13.79 مليار دولار عشيّة انكشاف الأزمة الماليّة في منتصف تشرين الأوّل 2019. أي بمعنى آخر، وبموازاة الخسائر التي انكشفت فعليًا جرّاء هذه الأزمة، كان المصرف المركزي يسجّل أرباحًا قاربت قيمتها نحو 12 مليار دولار، بفعل ارتفاع أسعار الذهب العالميّة. وخلال الفترة المقبلة، من المرتقب أن يُسجّل المصرف المركزي المزيد من هذه الأرباح المحاسبيّة، في ظل اتجاه المصارف المركزيّة الغربيّة إلى الاستمرار بسياسة خفض الفوائد، التي ترفع تلقائيًا من أسعار الذهب على المدى البعيد.
موجات زيادة قيمة احتياطات الذهب
تنطبق عبارة "رُبّ ضارّةٍ نافعة" على حكاية المصرف المركزي مع موجودات الذهب لديه. فلبنان شأنه شأن جميع دول العالم واجه التداعيات القاسية لتفشّي وباء كورونا، بما فيها النتائج التي طالت القطاعات الإقتصاديّة الرئيسيّة. كما عانى من الآثار الإقتصاديّة للحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، والتي شملت الضغوط التضخّميّة وأزمات سلاسل التوريد. بل وفي حالة الحرب على قطاع، عانى لبنان أيضًا من انتقال الحرب المدمّرة نفسها إلى أراضيه. غير أنّ البلاد استفادت في المقابل من تداعيات هذه الأحداث على أسعار الذهب العالميّة، والتي لطالما تأثّرت إيجابًا بهذه الأحداث، بالنظر إلى دور هذا المعدن الثمين كملجأ آمن للمستثمرين في فترات الأزمات.
إحدى أبرز موجات ارتفاع قيمة بند الذهب في الميزانيّة، حصلت في الفترة الممتدة بين منتصف شهر آذار 2020 ومنتصف شهر أيلول من العام ذاته، حيث سجّل هذا البند أرباحًا قُدّرت قيمتها بأكثر من 3.55 مليار دولار. وكان هذا التطوّر كما هو معلوم مدفوعًا بالأزمات التي نتجت عن تفشّي وباء كورونا، والتي أدّت إلى موجات من الإقفال الشامل في جميع أنحاء العالم، بما شلّ الأنشطة الاقتصاديّة وعطّل مصادر الطلب على الاستهلاك. الزيادة التي تحقّقت في بند الذهب في تلك الفترة، تمثّل أكثر من ربع الزيادة الإجماليّة التي جرى تحقيقها في هذا البند على امتداد السنوات الخمس الماضية.
بين أواخر كانون الثاني 2022 ومنتصف نيسان 2022، شهد بند احتياطات الذهب في مصرف لبنان زيادة سريعة –وخلال فترة قصيرة نسبيًا- بقيمة 1.65 مليار دولار. وكان ذلك نتيجة اندلاع الحرب على أوكرانيا، وما تبعها من آثار على سلاسل توريد مصادر الطاقة، والتي ساهمت برفع الطلب مجددًا على المعدن الأصفر. وساهم بزيادة أسعار الذهب أيضًا لجوء المصرف المركزي الروسي لشراء الذهب في تلك الفترة، كردّة فعل على العقوبات الغربيّة، ولمحاولة تعزيز قيمة الروبل. مع الإشارة إلى أن مصارف مركزيّة في دول أخرى، مثل الصين، سرّعت من وتيرة استحواذها على الذهب كاحتياطي استراتيجي منذ ذلك وقت، لتفادي الانكشاف على مخاطر عقوبات غربيّة كالتي طالت روسيا.
ارتفاعات أسعار الذهب بين 2023 و2024
الموجة البارزة التالية حصلت في الربع الأخير من العام 2023، بالتوازي مع اندلاع الحرب على قطاع غزّة، وما رافق هذه الحرب من توتّرات على مستوى الشرق الأوسط. في تلك الفترة بالتحديد، ارتفعت قيمة احتياطات مصرف لبنان من الذهب بنحو 1.9 مليار دولار، بالتوازي مع ارتفاع الأسعار الناتج عن الخوف من تضرّر إمدادات النفط في المنطقة. وتجدر الإشارة إلى أنّ أحداث البحر الأحمر بالذات تركت تداعيات مؤثّرة على كلفة الشحن والتأمين البحري، وهو ما أثّر على تكاليف نقل مصادر الطاقة وتصدير السلع التجاريّة. ومنذ ذلك الوقت، باتت توتّرات المنطقة بأسرها مصدر قلقٍ دائم للأسواق العالميّة.
خلال العام 2024، ارتبطت الموجة الأخيرة من ارتفاعات أسعار الذهب بانتقال الاحتياطي الفيدرالي الأميركي باتجاه خفض الفوائد، للمرّة الأولى منذ أكثر من أربع سنوات. وكان من الواضح أنّ هذا الخفض كان بداية مرحلة جديدة، عنوانها التيسير النقدي، وهو ما سيستمر بدفع أسعار الذهب صعودًا خلال الفترة المقبلة. ولهذه العلاقة العكسيّة بين أسعار الذهب ونسب الفوائد أسبابها، إذ أنّ خفض الفوائد يعني تلقائيًا خفض العائد من الأستثمار في أسواق الأوراق الماليّة، ما يجعل الذهب أكثر إغراءً للمستثمرين.
مستقبل الذهب في مصرف لبنان
بطبيعة الحال، ظلّت الأرباح الناتجة عن زيادة قيمة الذهب مجرّد أرباح محاسبيّة لدى مصرف لبنان، إذ لم يقم المصرف المركزي طبعًا بتسييل أي جزء من احتياطات الذهب للاستفادة من هذه الأرباح. ومع ذلك، من المهم التشديد على أنّ هذه الأرباح –وإن كانت محاسبيّة- لها قيمتها وأثرها الحقيقي في العلوم الماليّة. فقيمة الذهب ارتفعت بالفعل، والفجوة بين الموجودات والمطلوبات تقلّصت، وهذا ما سينعكس بدوره على ملاءة المصرف المركزي ووضعيّته الماليّة. ومصرف لبنان نفسه بات يلجأ منذ العام الماضي إلى تقليص قيمة البند الذي يعبّر عن خسائره المتراكمة، في مقابل الزيادة في قيمة الذهب، وهو ما يؤشّر إلى العلاقة البديهيّة بين البندين وفقًا للمعايير التي يعتمدها مصرف لبنان.
ومع ذلك، لا حاجة للتذكير دائمًا بوجود نصوص تشريعيّة تمنع استخدام الذهب، إلّا بموجب موافقة من مجلس النوّاب. وهكذا، من غير الوارد أن يتم التصرّف بهذا الذهب في المستقبل، من خارج إطار خطّة ماليّة متّفق عليها بشكل واضح مع السلطة التشريعيّة. الخطط الماليّة الحكوميّة السابقة لم تلحظ أي استخدام للذهب في عمليّة سداد الودائع، غير أنّ إحدى "مسودّات العمل" التي وضعتها حكومة ميقاتي وضعت أفكارًا لاستخدام الذهب في تثبيت سعر الصرف، عبر ربط قيمة العملة المحليّة باحتياطات الذهب الموجودة. ومع ذلك، لم تتم بلورة هذه الأفكار بأي مقترحات عمليّة أو واقعيّة، ولم تظهر هذه المقاربة في مسودّات الخطّط اللاحقة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها