يتطلّب إطلاق أسماء على الحروب ابتكاراً وخيالاً وثقافةً... ذات ثقل دينيّ غالباً. تُطهى أسماء الحروب والمعارك في مطبخ المجالس الحربية، ثمّ تُقدّم على موائد الإعلام العسكري ومنه إلى المدني. هو تقليد حربي حديث تقريباً، ابتدعه الألمان في الحرب العالمية الأولى، وتوسّع مع اختراع الراديو واستخدامه دعائياً، وترسّخ مع الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية، تحديداً مع تشرشل الذي أَولى إطلاق الأسماء على المعارك أهمّية خاصّة وإشرافاً شخصياً من قبله.
حفل التاريخ العربي البعيد، كمثال، بأسماء بسيطة للحروب، انتسبت بغالبيتها إلى الجغرافيا، إلى أسماء ساحات المعارك والاشتباك في المدن والأقاليم، ليس ضعفاً في الابتكار والخيال على الأرجح، بل بسبب الطابع التوسّعي لتلك الحروب، فتسميتها بإسم مكان وقوعها تحدّد وجهتها وأين وصلت في تمدّدها. معركة قادش (مدينة سورية) غزوة بدر (بئر ماء بين مكّة والمدينة المنوّرة) وغزوة أُحُد (جبل مطلّ على المدينة المنوّرة) ومعركة اليرموك (وادٍ في الأردن) أمثلةٌ على التسميات الجغرافية. الأسماء غير الجغرافية حضرت أيضاً، مثل حرب البسوس (امرأة) وحروب الردّة والحروب الصليبية... لكن حتّى هذه افتقرت للتميّز والاستعارات والبلاغة، خلافاً لما سيحدث لاحقاً، في عصرنا الحديث.
فُرِض تحدّي الأسماء "الإبداعي" والدعائي مع تكرار الحروب في مكان واحد، وبين طرفين لا يتغيّران، كما حال الحروب الإسرائيلية الكثيرة على غزّة في العقدين الأخيرين، والتي اختار لها العدو أسماء مستلهمَة من التوراة مراراً، ولاقتها حركتا "حماسط و"الجهاد الإسلامي" بأسماء إسلامية وقرآنية. حرب "الرصاص المسكوب" الإسرائيلية العام 2008 سمّتها حماس "حرب الفرقان"، وهو اسم سورة قرآنية، وترد الكلمة في إحدى آيات سورة "الأنبياء" مقترنة بموسى: *ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتّقين*، وتورد بعض التفاسير الإسلامية أنّ المقصود بالفرقان في هذه الآية هو "التوراة" ما يشكّل بذاته رسالة جوهرية من الحركة الإسلامية إلى الدولة اليهودية، أمّا فقهياً، فالفرقان البيّن هو ما يُفرَق به بين الحقّ والباطل.
في العام 2012، شنّت إسرائيل حرب "عمود السحاب"- وهو عند اليهود رمز لسَير الربّ معهم نهاراً في ترحالهم وحمايته لهم- واختارت حماس لتلك الحرب اسم "حجارة السجّيل" المقتبسة من سورة الفيل، وهي حجارة من جهنّم ألقتها طيور أبابيل على جيش ملك الحبشة حين حاول هدم الكعبة، والسورة نفسها تنتهي بآية *فجعلهم كعصف مأكول*، وقد اختارت كتائب القسّام "العصف المأكول" اسماً للحرب التي شنّتها إسرائيل على غزّة العام 2014 باسم "الجرف الصامد"، أو "الصخرة الصامدة"، وهي العبارة التي وردت في قصّة بلعام في سفر العدد: *ليكن مسكنك متيناً وعشّك موضوعاً في صخرة*.
أمّا حرب "حارس الأسوار" التي هدفت إلى قمع العمليات المقاوِمة لتهويد القدس العام 2021، فقد سمّتها حماس "سيف القدس"، ولا تخفى صلة حارس الأسوار ذاك بـ"حرّاس الهيكل"، المنظّمة التي تأسّست لتهويد القدس. لا يُعرف إن كان نتنياهو تأثّر بالاسم وبسيف القدس حين اختار "السيوف الحديدية" للردّ على "طوفان الأقصى"، ورغم أنّ العرف الغالب أن يختار أسماءَ المعارك رئيسُ أركان الجيش وأحد أعضاء الحاخمية العسكرية، إلّا أنّ نتنياهو نسب لنفسه تسمية الحروب والمعارك الأخيرة، وقد صرّح مؤخّراً بأنه غيّر اسم الحرب الحالية على غزّة من "السيوف الحديدية" إلى "حرب القيامة" أو "حرب البعث"، متوّجاً استلهاماته الكثيرة والمحمومة للتوراة، متابعاً تسخير العقيدة اليهودية لخدمة أهدافه العسكرية. وعن معنى "السيوف الحديدية" تقول الرواية التوراتية إنّ الفلسطينيين منعوا بني إسرائيل من امتلاك الحديد لئلا يصنعوا السيوف والدروع، وأن الله ليّن الحديد للنبي داوود، ومن هذه المكانة للحديد أتت أسماء منظومات الدفاع الاسرائيلية كما "القبّة الحديدية" و"مقلاع داوود"، النبي الحدّاد منزوع السلاح إلّا من مقلاع الذي هزم العملاق جالوت المدجّج بالدروع، أمّا "البعث" فدلالته الدينية بديهية.
توجّب على نتنياهو أن يغيّر الاسم الأول للحرب، والذي لاقى انتقادات ووصفه بعض الإسرائيليين بأنه أُطلق بتسرّع وتحت وقع صدمة "طوفان الأقصى" - فأيّ سيوف ليست حديدية؟ تساءل بعض الإعلام الإسرائيلي ساخراً- ليتداول الإعلام الاسم الجديد، ويرسّخ ما تقوم به الآلة الإعلامية والدعائية الإسرائيلية من حيث الترويج لإنجاز أهداف المراحل السابقة من الحرب على غزّة والانتقال إلى مرحلة جديدة، والتقدّم نحو "النصر الساحق" و"البعث" برأيهم وتقديرهم. وتغيير اسم الحرب هنا قد يكون تأثّر بالانتقادات، لكنه يندرج أيضاً في الاستراتيجية الحربية وإدارة المعركة وأثرها النفسي. تغيير الاسم يعني نجاح أهداف الحرب الأولى، وتجاوزها إلى ما بعدها.
وقع الإعلام العربي في معضلة الترجمة، فبادر على عجلة إلى ترجمة حرفية للكلمة العبرية التي أعلن عنها نتنياهو: "حرب النهضة"، وبعد وقت عُدّلت الترجمة إلى "القيامة"، حين فُهم مغزاها العقائدي التوراتي.
لكنّ عدم دقّة الترجمة ليس خطأ دائماً، بل أحياناً يكون متعمّداً، وتعبيراً عن احتقار الخصم لخصمه ولادّعاءاته وروايته الإعلامية تحديداً. أن تُسمّى نهضة أو قيامة لا يهمّ حقّاً عند الطرف الخصم ومناصريه، فهم في الأساس يسمّونها "إبادة غزّة" وليست حرباً أو عدواناً، لأنّها غير متكافئة، أمّا المنابر والمنصّات الإعلامية والبحثية فقد استخدمت تسميات شتّى نابعة من رؤاها الإيديولوجية وتوجهاتها السياسية، مثل "حرب" أو "عدوان" وغيرهما...
"عاصفة الصحراء" أطاحت "أمّ المعارك"
نادراً ما يتّفق المتصارعون على اسم معركتهم. يأخذ كلّ منهم جعبة أسمائه إلى ساحة القتال. يدخل الاسم في صلب الصراع. الأسماء والتسميات تتحارب وتتوعّد واحدتُها الأخرى بالهزيمة والمحو من الذاكرة وعن وجه الأرض، أو تتوهّم النصر وتزعمه عندما تنتهي إلى تسوية وتُمحى الحدود بين النصر والهزيمة.
حين تنوي النقاش الجدّي والعميق مع ندّ أو خصم أو عدوّ، تتّفقان على فكرة أوّلية وهي "تسمية الأشياء بأسمائها"، وهذا أمر دونه صعوبات جمّة، ويشكّل غالباً عثرة أمام التفاوض وإبرام تسوية أو صفقة. إن اتّفقتَ فعلاً على اسم واحد للحرب مع خصمك، تكون قد سلّمتَ سلاحك استسلاماً أو رفعته انتصاراً. أمّا إن تجاهلتَ الاتفاق على الاسم، فستدخل الحوار محارباً لا مفاوضاً.
في نهاية الحرب، ينتصر اسم واحد بين الاسمين المتحاربين، الاسم الذي اختاره المنتصر. لن يكتفي بكتابة التاريخ، كما يقال، بل سيضع الأسماء كما تطيب له. حين أعلنت قوات التحالف، بقيادة الولايات المتحدة، معركة تحرير الكويت من الغزو العراقية، سمّتها "عاصفة الصحراء"، وأطلق صدّام حسين اسماً آخر هو "أمّ المعارك". جورج بوش وحلفاؤه أرادوها عاصفة صحراوية عاتية ومغبرة، لكن قصيرة الأمد، لأجل تطمين جيوشهم وأهاليهم في أوطانهم البعيدة، أما صدّام فاعتبرها أمّ المعارك من منبع اعتداده بنفسه وجيشه. هُزم جيش صدام وطُرد من الكويت وعصفت "عاصفة الصحراء" بمسمّى "أمّ المعارك" فابتلعه النسيان.
فاشية المنادي
الأمثلة كثيرة على التوظيف البروباغندي لأسماء الحروب والمعارك والمنحى الإيديولوجي لأسماء النظريات. النظرية التي يسمّيها هانتنغتون "صراع حضارات"، سمّاها فوكوياما "نهاية التاريخ"، وينقسم الجمهور من أعلى نخبه إلى قاعدة هرمه، بين مؤّيدين ومعارضين للنظريتين عبر تبنّي واحدة منهما. هذا أمر يبدو صحّياً، لا يترك هامشاً للقمع والازدراء والاستعلاء، كما يحدث حين يُنكر ندّ اسم ندّه ويصرّ على تسميته ومناداته باسم اخترعه هو، مصحّحاً لذاك الندّ خطأه في اختيار اسمه، كما حدث مثلاً في لبنان مع "فريق 8 آذار" الذي بقي لفترة من الزمن ينكر اسم "14 آذار" ويناديه باسم "14 شباط" لأنّه انبثق بالأساس، في رأي الفريق الخصم، من يوم 14 شباط-يوم اغتيال رفيق الحريري. بديهي أنّ الفريقين تغيّرت أسماؤهما ورست مؤخّراً على: "الفريق الممانع" و"الفريق السياديّ".
لبنان بين أهله وإسرائيل
في تموز 2006 أطلق العدوّ الإسرائيلي على حربه على لبنان اسم "حرب لبنان الثانية"، لكنّ الطرف اللبناني بقي يسمّيها إلى اليوم "حرب تمّوز"، لم تهزم تسمية أخرى، لأنّ تلك الحرب انتهت بصفقة، واعتبر كل من الطرفَين نفسه منتصراً.
الحرب الداخلية في لبنان عصفت بها تسميات عديدة، لكلّ منها أسس أيديولوجية. منذ انتهاء الأنشطة العسكرية والمسلّحة، وحتى اليوم، ما زالت للجدل أصداؤه، هل كانت حرباً أهلية اقتتل فيها اللبنانيون؟ أم حرب الآخرين على الأراضي اللبنانية؟ مثل تلك الحروب الشائكة المرتبطة بتعقيدات المكوّنات السكّانية والديموغرافية والطائفية والتشابكات الإقليمية، من الصعب أن تجد لها اسماً واحداً يتداوله الأفرقاء. تركن المنصّات الإعلامية والسجلّات التوثيقية في النهاية إلى اسم غير مستفزّ، لا يأخذ طرفاً، كما فعلت قناة "الجزيرة" حين أنتجت الوثائقي الشهير "حرب لبنان"، والذي وثّق الحرب من 1975 وحتى اتّفاق الطائف 1989.
لم تخلُ أسماء الحروب من لمسات أدبية وشعرية. فشنّ شيمون بيريز "عناقيد الغضب" في نيسان 1996، مستلهماً عنوان الرواية الشهيرة لجون ستاينبك، وأطلقت حكومة أولمرت على عملية تحرير جلعاد شاليط اسم "أمطار الصيف"، من وحي الطبيعة، بسبب وقوعها في يونيو 2006، تلتها بعد شهور قليلة عملية "غيوم الخريف".
للمنتصر مَلَكة التسمية
يغيّر المنتصر أسماء ما يكسبه أيضاً، وليس الحروب فقط. فبعد المعارك يأتي دور المدن والبلدان. المدينة المنوّرة قبل الهجرة كانت تُسمّى يثرب. القسطنطينية صارت تسمّى إسطنبول. بلاد الغال صارت فرنسا. مع كلّ حلّة تاريخية جديدة وكلّ عهد سياسي جديد، تتعرّض الأسماء لإمكانية التغيير ثم تدخل الاستقرار لاحقاً. لكن المناطق المحكومة بالنزاعات تحتفظ بأكبر قدر من الخلافات على التسمية، ولا يبدو أنها تصل أبداً إلى لحظة المكاشفة تلك والتلاقي على "تسمية الأشياء بأسمائها". إن أردنا حلّاً للخلاف على الأسماء مع أعدائنا، قد يكون علينا أن نبدأ من النبي إبراهيم، ونتّفق حول اسم ابنه الذي صحبه إلى المذبح ليضحّي به: إسماعيل كما يقول المسلمون؟ أم اسحق كما يقول اليهود؟ أما أبناء الأمّة الواحدة، فهم أيضاً دائمو الخلاف حول يوم ما، بين من يعتبره يوماً مجيداً ومن يسمّيه يوم العار.
اختيار الأسماء في الحروب جزء من علوم الحروب والبروباغندا السياسية، لكنّ صفتها العلمية هذه محيّرة إلى حدّ ما. فبينما يقفز العصر خطوات تكنولوجية مذهلة ويسابق الزمن، تلجأ أسماء الحروب الحالية إلى التاريخ البعيد، إلى القاموس الديني والكتب المقدّسة، ربما لأنّ قدر الحروب في منطقتنا التي شهدت ولادة الأديان الموحّدة الثلاثة، أن ترتبط بالدين طويلاً جداً، ولأجل بعيد يسمّيه المتحاربون "يوم الدين" و"يوم الحساب" و"القيامة"... وحتى ذلك اليوم ستحتاج التسميات إلى الكثير من الجهد والاهتمام لأنّ الحروب لا تبدو إلى تقلّص أو زوال.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها