- لماذا نحن اليوم بحاجة إلى إعادة قراءة محمد شكري غربياً وعربياً؟
* لأن هناك مشكلة كبيرة، وظلم كبير لأدب شكري لم يتجاوزه العالم العربي حتى اليوم، فكتبه كانت ممنوعة من التدريس في الجامعات العربية، وما زلنا نتذكر ما حدث في الجامعة الأميركية في القاهرة العام 1999، عندما حاولت الأستاذة سامية محرز تدريس كتابه "الخبز الحافي"، وكيف منعت ومنع الكتاب وأثار الموضوع ضجة قوية حينها. دائماً كان هناك حكم مسبق بشأن شكري، من قبل أن ينطق أو يكتب، بسبب ظروف نشأته. كان يتحدث الريفية ثم تعلّم اللهجة المغربية، ثم تعلم القراءة والكتابة باللغة العربية الفصحى. عانى معظم حياته من الأحكام المسبقة عليه، اختزل الناس أدبه بسبب نظرتهم المحافظة "للخبز الحافي" وعاقبوه لأنه تحدث عن التابوهات. لكنه رغم كل ذلك، كتب بجرأة غير مسبوقة في قصص مثل "الخيمة"، و"العنف على الشاطئ" القصة التي أعجب بها سهيل إدريس ونشرها في مجلة الآداب اللبنانية العام 1966، كما نشرت له في ما بعد مجموعة "مجنون الورد" 1979، لكنها تهيبت من نشر "الخبز الحافي".
- في بداية "وجوه"، يتحدث شكري عن مدينته وسوقها الداخلي في باب "حب ولعنات"، بحزن شديد "لقد شخت معهم، لكن الحياة هنا اليوم تتعفن وتخسأ ولا تشيخ في جلال. حتى الذاكرة تتأفف وتمقت أن تسجل اليوم أي شيء مما تبقى. لم يتغضن ويتجعد وينكمش فحسب جلد (السوقيين) الدائمين بل تفسخ وتبثَّر واهترأ. أكيد إن استعادة مجدهم القديم، في مخيلتهم، هو الذي يُشحِب الآن سحنتهم وينخر عظامهم ويجعلهم يمتعضون من هذا التحول الذي هزمهم في مدينتهم المنكوبة. لكأنها جثة، لم تُدفن جيداً. هذا القلب، قلب المدينة في عز شبابها، مصاب اليوم بجلطة دموية محال أن يسلم منها، شرايينه تتمزق كل يوم، سينفجر!"، إلى أي درجة كان ممكناً نقل هذا الألم الذي يشعر به إلى لغة أخرى؟
* كان شكري إنساناً عميق التأمل، وصادقاً في نقل مشاعر الشخصيات، وكان يعرف جيداً المكان الذي نشأ فيه أكثر من أي شخص آخر، لذلك لم يقدم أدبه لإرضاء الآخرين، بل للتأمل في حال المدينة وإنسانها، وأنا كشخص أترجم أعمال شكري بدافع الحب والمسؤولية، أتفق مع رومان جاكوبسون الذي يقول إن "الترجمة هي تفسير لمعنى النص، ومن المستحيل خلق تطابق تام بين النصين لأن اللغات بطبيعتها غير قابلة للترجمة". لذلك كنت أعمل على نقل روح النص وأجوائه.
ونعلم أن علاقة شكري مع طنجة علاقة إشكالية جداً فهو يتحدث عن معاناتها وعن تأثير الاستعمار في ناسها. نجد ذلك بوضوح في "الخبز الحافي"، حيث يتحدث عن الدعارة والفقر والفروق الاجتماعية وسلب هوية المجتمع. فعلى الرغم من أن مدة الحماية في المغرب لم تكن طويلة مثل الجزائر (1912-1956)، إلا أن تأثيرها كان كبيراً ومدمراً في المجتمع المغربي، حيث يمكن الحديث عن قضايا عديدة خلّفها الاستعمار.
- ظهر شكري أكثر من مرة مدافعاً عن موقفه من المرأة، إذ اتُهم من قبل البعض بأنه يقدم نموذجاً واحداً ووحيداً للمرأة، وهو المومس.. ورغم أن شكري يظهر المرأة كضحية للسلطة الذكورية والمجتمع البطريركي وللفقر والاقصاء الاجتماعي، إلا أنه من خلال رصد وضعها وتبدلاته، استطاع أن يشرح لنا المجتمع والتغييرات التي طرأت عليه في طنجة، منذ كانت طنجة دولية إلى أن أصبحت مستقلة، لكنه أيضاً يشير في "وجوه" (ص50) إلى أن ظهور المرأة المغربية العادية في ذلك الوقت كان نادراً جداً: "المرأة المغربية - إذا مرت مستعجلة ملفوفة في حكائكها- تستلفت نظر النصارى أكثر من اليهود الذين يتكلمون لغة المغاربة ويمارسون بعض الطقوس المشابهة. ظهور المرأة المغربية كان نادراً حتى في أزقة المدينة"، ويمكننا أن نفهم من حديثه أن المرأة المغربية الطنجاوية في ذلك الوقت لم يكن لها حضور في الحياة العامة، لذلك ركز شكري على نموذج المرأة المومس الموجودة في الحانات، إنما ضمن سياق إنساني، لأنها النموذج الوحيد الذي له حضور في الحياة العامة إلى جانب الرجل، ما تعليقك على هذا الأمر؟
* يجب على الانسان أن يقرأ معظم أعمال شكري ليفهم كيف ينظر للأمور، وليفهم مكانته ككاتب يُعرّي المجتمع ويفكك الصور النمطية ويتحدث بصراحة وصدق عن كل ما هو مسكوت عنه. وُجِدت الحانات في طنجة بسبب وجود الاستعمار، الاستعمار الإسباني هو الذي افتتح الحانات للترفيه عن جنوده، وفي تلك الفترة كان هناك عدد كبير من النساء الأجنبيات وربما بعض المغربيات داخل الحانات، والدليل على ذلك أن عدداً كبيراً من هذه الحانات أغلق بعد انتهاء الحماية الاستعمارية ومغادرتها للمدينة، وهو يظهر كيف أن المرأة كانت إحدى ضحايا الاستعمار، بالإضافة الى السلطة الذكورية التقليدية، لا سيما في "الخبز الحافي". لذلك ذهب الكثير من المثقفين والنقاد إلى اختزال أدب شكري واعتباره أدباً إباحياً لا أخلاقياً، وهو أمر غير صحيح على الاطلاق، لأن شكري من خلال عمله كله يظهر كيف أن المرأة تتخذ هذا السبيل لظروف قاهرة يتسبب بها الفقر والعنف الأسري والمشكلات الاجتماعية والظروف السياسية التي يكون المجتمع مسؤولاً عنها بالدرجة الأولى. لكن معظمهم بنى صورة مسبقة وسطحية منذ صدور "الخبز الحافي" ولم يرغب في تغييرها.
- يقول محمد شكري في "وجوه"، وفي مقدمة "حب ولعنات": "قال غيوم لأوسو: لم تؤلَّف الكتب لنؤمن بما فيها، لكن لنتأمل، فأمام الكتاب يجب أن لا نتساءل عما يقول، وإنما عماذا يريد أن يقول"، وهي فكرة كانت واضحة جداً عند مفسري الكتب المقدسة القدامى، على غرار "اسم الوردة" لأمبرتو ايكو، وكأن شكري هنا يستبق نقاده ومحاكماتهم الأخلاقية له؟ هل توافق على ذلك؟
* نعم، يدعونا شكري هنا للتأمل، يخبرنا مسبقاً أن حكم الناس المسبق البسيط، خاطئ، لنعيد قراءة شكري بطريقة ذكية، لنقرأ ما بين السطور. ربما هذا هو الاقتباس الوحيد الذي أورده شكري في "وجوه" وأراد من خلال أمبرتو ايكو أن يرد على التهم التي وجهت اليه، وليحدثنا عن العلاقة بين القارئ والنص، وعن التأويل وأهميته في عملية القراءة، وفي الابتعاد عن حرفية النص. في تأويل النص، كان محمد شكري يعرف نظريات القراءة، كان يقرأ للفلاسفة وللمنظرين الفكريين، مثل ميشيل فوكو وجوليا كريستيفا وجاك دريدا ورولان بارت الذي كتب عن موت المؤلف، وكيف أن النص يُمتلك من طرف القارئ الذي يقوم بتأويل المعنى بعيداً من الكاتب، إذ يقول بارت "إن ميلاد القارئ يجب أن يكون على حساب موت المؤلف".
- بعض شخصيات "وجوه"، رغم جذورها الواقعية في حياة الكاتب، تبدو مع الوقت ذات ملامح أسطورية، لِمَا تحمله من أبعاد درامية مصقولة، يظهر جزء صغير منها على السطح، بينما تضرب جذورها في أعماق المجتمع المغربي والطنجي بشكل خاص، مثل شخصية "منصف" في "أخبار الموت والموتى"، و"الأخوين أحمد وخليل" في "عزلة".. فهل هناك دراسات نقدية تناولت هذا الأمر؟
* للأسف، لا دراسات نقدية، ثمة القليل فقط حول الخبز الحافي، لكنه لم يكن كافياً، ففي بناء الشخصية القصصية نجد عند شكري مزج الحقيقة مع الأسطورة، هناك شخصيات حقيقية، لكننا نعرف أن حكواتيي طنجة يعرفون هذه الأشياء. شكري يختلف عن الآخرين، مثلاً عن ماركيز، بأن أعماله لا تنتمي إلى الواقعية السحرية، لأن شكري يخلق قصصاً فيها شخصيات يسرد حياتها اليومية لكنه يمنحها عمقاً أسطورياً، ينطلق فيها من التجربة الإنسانية العميقة. ساعدته في ذلك تجربته الشخصية. مثلاً، منصف، شخص من المعروفين في طنجة، مولع بأخبار الموت، لكنه وجه طنجاوي تعرض لتهميش من المجتمع.
حتى التهميش له وجوه عديدة: تهميش اجتماعي، واقتصادي، وثقافي، وجنساني كعزل المرأة من أدوارها وإتباعها بالسلطة الذكورية. وشكري، مثل الكاتب الفرنسي إيميل زولا، أو الروسي مكسيم غوركي، الأديب والمفكر السياسي الذي لعب دوراً في تطوير الأدب الروسي وكتب ما عُرف بالواقعية الاجتماعية، فهو يتحدث عن حقوق الفقراء، وكذلك شكري كان يتحدث عن الطبقة الفقيرة والتهميش والدعارة. لا يوجه إصبع الاتهام بشكل مباشر إلى شخص محدد، لكن القارئ يفهم ما يريده، وقد تميز شكري في الحديث عن تيمات لا زمنية، نجدها في كل زمان ومكان، كالتهميش والدعارة والفساد والاستبداد والاستعمار والآثار التي تركها وراءه في المجتمعات.
- يقول شكري "إن الثوري يحمل معه شبابه إلى المعركة، فكراً وعملاً، ويبقى شباب الرومانسي شاهداً فقط على عصر الاستشهاد الذي لا يشارك فيه إلا كمتفرج"... "أما الثوري فلا ينتظر الالهام، إنه هو نفسه الإلهام".. إلى درجة يُعتبر أدب شكري ثورياً؟
* نعم كان ثورياً في كل ما قدمه في أدبه، من حيث تفكيك أمراض المجتمع وتحليل مشكلاته وحديثه عن تأثير السلطات والاستعمار في الأفراد. سُجِن شكري لفترة قصيرة، وهناك سمع للمرة الأولى أبيات أبي القاسم الشابي "إذا الشعب يوماً أراد الحياة"، وهي من الأشياء التي حفزته على القراءة وعلى الكتابة في ما بعد، وعلى وصف الأشياء في قبحها وفظاعتها. وتعرف على الأدب الملتزم من خلال قراءة سارتر وغيره، مما نمى لديه الحس النقدي، ومن خلال ممارسته لكتابة إبداعية مغايرة عن السائد في الأدب المغربي والعربي في ذلك الوقت.
- هل يمكننا أن نتحدث عن الجانب الشعري لدى شكري، أحد الجوانب الغامضة في شخصيته، ونجد آثاره في بداية بعض القصص في "وجوه"؟ أيضاً في باب "غواية الشعر" وتسامحه في "غواية الشحرور الأبيض"؟
* في الحقيقة، كتب شكري قصائد عديدة يمكن أن نجد بعضها في "زمن الأخطاء"، ومنها قصيدة مهمة جداً عن شغفه بطنجة وعلاقته الإشكالية بها، "بعنوان "طنجيس"، لكن للأسف أسقطها في الترجمة الإنكليزية Ed Emery، ويقول شكري في مطلعها:
يَحْكونَ عَنْكِ: أنَّ طيِنَةَ الخلاص مِنْك،
وأنَّ نُوحاً فيك قد تَفيَّأ الأمان،
وأنه حمامةٌ، أو هُدهُدٌ،
وأنه غُراب.
وبين موجتين
تناسلتْ طَنْجَةُ مِلءَ زبدِ البِحَارْ.
تَعَاقَبَتْ على بَكَارتك
مباضِعُ الشَبَقِ والغزاة
مناسك الحلول والتّناسخ
وكان عيدُ باخُوس
يُفجِّر الجنون في الأصلاب،
والهذيان في ثُغاءِ البَحر،
كأنما طروادةُ يرِثُها الحصان،
كأنها في موتها عروس
أججها خامدةً زيّوس
وهو يذكر في "زمن الأخطاء" أسماء عدد كبير من الشعراء الإسبان الذين وجهه لقراءتهم في بداياته، الكاتب المغربي محمد الصباغ، فقرأ لهم ولعدد آخر من الشعراء الأميركيين الذي ترجم شعرهم للإسبانية والفرنسيين والعربية. كان شغوفاً بقراءة الشعر، لكن جل كتابته كانت في الفن القصصي.
في الترجمة
- لمحمد شكري رأي خاص في الترجمة ظهر في كتابه "الشحرور الأبيض"، يقول: "محنة الكاتب العربي اليوم هي أنه مطالب بتطوير تقنيته وموضوعه أكثر من أي وقت سابق. إنه مزاحم من الكتّاب الغربيين في الأصل، وفي الترجمة التي تخطت مرحلة الاقتباس والتشويه والتعريب. ويقول في الهامش عن يوسف الحاج، ناقداً إياه في كتيبه "دفاعاً عن اللغة العربية"، أن الترجمة "وسيلة لا غاية"، وأن "المهم عند الأديب ليس التعبير الصائب، بل التعبير الجميل". يبدو لي أنه قد بالغ في قومية اللغة، وإلا فماذا يقول عن الكتّاب الذين كتبوا بلغات أجنبية فأبدعوا فيها، أمثال جبران خليل جبران، صموئيل بيكيت أو أوجين يونيسكو. إننا لا نكتب بحثاً عن جمال التعبير المحض، وإنما عن نهاية الحقيقة في الحياة، إن الصلة التي مازالت تربطنا بالحضارات القديمة هي فكرية أكثر منها لغوية. هوميروس لغوياً مات والمعري يحتضر. لكن فكرياً هما حيّان، ما رأيك كمترجم في وجهة نظره هذه؟
* نعم هو يقول إنه يمكننا أن نتخطى اللغة كلغة، أعتقد أنه يقصد أن الفكرة أو العنصر الفكري ليس له علاقة وطيدة باللغوي، الأفكار تتجاوز الزمان وهي كونية دائماً، نستطيع أن نتخلص من قيود اللغة وتبقى الفكرة حية. وهذا يثبت ذكاء هذا الرجل وحسه النقدي الحاد، ونحن نرى كيف أن كاتب "الخبز الحافي" يناقش هذه الأفكار الكبيرة. يمكننا أن نلمس مدى تطور تفكيره على مر السنوات، بسبب قراءاته المكثفة ومعرفته بلغات أخرى كالإسبانية والفرنسية.
- يثير شكري باكراً جداً في "الشحرور الأبيض"، قضية ترجمة الأدب العربي الى اللغات الأخرى، وهي قضية شائكة جداً، عانى منها هو شخصياً، كما عانى منها معظم المبدعين العرب، إذ يلمح إلى الخلل الكبير في ميزان الترجمة بين اللغات الأجنبية الغربية، الفرنسية والإنكليزية بالدرجة الأولى، التي كان لترجمة أعمال مبدعيها الى العربية أثر كبير في مثقفي العالم العربي، بينما بقيت الترجمة من العربية الى اللغات الأخرى نادرة، حدثت على يد مستشرقين معدودين في أوقات محددة، مما أثر بشكل كبير في ندرة حضور العرب في المشهد الأدبي العالمي؟ ما تعليقك على ذلك؟
* متفق مع قوله، الإشكالية الموجودة كانت بسبب المركزية الأوروبية والهيمنة الثقافية الغربية، وهناك سلطوية للغات الأوروبية الفرنسية والإنكليزية والألمانية والإسبانية، لكن هناك سبباً جوهرياً يخصنا، هو ندرة الترجمة من العربية الى اللغات الأخرى، ولأن بعض المثقفين العرب والمترجمين، لا يؤمنون بجماليات اللغة العربية وبأهمية النصوص الروائية العربية، مما أحدث خللاً كبيراً في عمليات التبادل الفكري بين العالم العربي والغربي على مدار عقود طويلة.
- يقول شكري في "الشحرور": "أدبنا يشبه أدب الزنوج الذين لا تعنيهم إلا قضيتهم تجاه العرق الأبيض. غير أن ازدواجيتنا الحقيقية تتمثل في كوننا ننتقد بشدة مظاهر الغرب الإباحية مُطالبين بالعودة إلى قيمنا العريقة في الحشمة والعفاف بينما نحن نستورد من الغرب (خفية وعلانية) آخر مظاهر المادية والفكرية". ويقول عن الأدب العربي، "غير أنه أدب تسجيل وارضاء أكثر منه أدب تفكير وتغيير... إننا لا نطالب بإلغاء الأدب الإقليمي، وإنما نطالب بتطويره إلى ما فوق التقاليد القومية البحتة بحيث نجعل من ناس عاديين أساطير كونية كما فعل الطيب صالح في روايته بندر شاه، وغابرييل غارسيا ماركيز في معظم أعماله، وخوان رولفو في قصصه"... إلى أي درجة كان تماس شكري مع النقد والقراءة النقدية ونظريات القراءة والتلقي مهماً لعمله؟
* يمكننا أن نلمس بوضوح بدايات ولعه بالقراءة المكثفة في "زمن الأخطاء"، بقراءة الأدب والنقد. قرأ معظم انتاج المفكرين والمنظرين الغربيين المعروفين في ذلك الوقت، بالإضافة الى صداقته مع معظم من مر منهم في طنجة، بالإضافة للكتّاب المغاربة المعروفين في زمنه، مثل محمد الصباغ ومحمد زفزاف ومحمد برادة وأحمد عبد السلام البقالي وغيرهم، لكنه عاد إلى تجربته الشخصية الحية بعدما صقلها بالقراءة في التعامل مع الأدب.
- هل يمكنك أن تخبرنا قليلاً عن العلاقة المعقدة بين شكري وطنجة؟
* في "وجوه"، نرى العلاقة الإشكالية بين محمد شكري ومدينته طنجة: يرافق محمد مدينته ويرصد تحولاتها إبداعياً من خلال السرد القصصي، لكنه يغوص عميقا فيها من قاعها حتى النخب الفكرية التي مرت عليها، وهو إذا كان خبيراً تماماً بماضيها عندما كانت دولية وتحت الاستعمار الاسباني والفرنسي، وكما يذكر، فشهرتها الدولية لم تبدأ إلا مع الحماية (30-3-1912) والمصادقة نهائياً على نظام منطقتها الحرة في 12-6-1928 بعد تعديل اجتماع باريز (18-12-1923) من أجل مشروع تدويلها. وعن جو الانفتاح الذي شجعه عدم وجود قوانين تجرم الأفعال الأخلاقية والممارسات الجنسية غير المتعارف عليها، مما كان له أثر كبير في مكانتها السياحية الماضية والتي جعلتها محجاً لعدد كبير من مفكري ومثقفي العالم الغربي، أيضاً ليتوافد عليها عدد كبير من سكان أوروبا بسبب الحروب الأهلية والمطاردات كما في اسبانيا كونها نقطة عبور بين القارتين أفريقيا وأوروبا، حتى حصولها على استقلالها. لكن كان يمكن لمس آثار الاستعمار ومخلفاته في المجتمع، إذ ارتد المجتمع ليصبح محافظاً ومتديناً في جزء منه، وليبدو الانفتاح وكأنه ماضٍ بعيد متأثر بالظروف السياسية المؤقتة.
يمكننا تتبع ذلك في أعمال شكري، مثلاً عندما يتحدث عن الحانات وقصة اللوحات المعلقة على جدرانها، وكيف يظهر تحليل الناس للوحة ولصاحبها، كلوحة بورتريه لهمنغواي، وكيف يظهر تأثر الناس بزوار طنجة المشهورين. لكنه يظهر كتأثر سطحي ومحدود وربما سياحي، لا يترك أثراً عميقاً، بينما طنجة المدينة تركت أثراً عميقا في معظم من زارها أو أقام فيها، إذ يبدو الخيال الذي أحاط بها وبحاناتها كبيراً، كونها مدينة كوزموبوليتانية، أو كما يقول شكري في "وجوه"ك "أسطورتها أقوى من تاريخها"، عندما يتحدث عن عدد الأشخاص المفكرين والفنانين والكتاب الذين زاروها. لكن مَن لم تكن لهم صورة في حانة، نسيهم الناس ولم يعرفوا بمرورهم فيها، ربما يؤلفون قصصاً حول أشخاص لم يزوروها قط، لكن لأن لهم صوراً أو لوحات تمثلهم في الحانات، كانوا موجودين بالنسبة إليهم.
- تعرض محمد شكري لمحاكمات أخلاقية من قبل عدد من النقاد العرب بسبب جرأة طرحه وتشريحه لحياته ولحياة مجتمع مدينته، كيف يتلقى العالم الغربي كتبه اليوم؟
* نعم ليس شكري وحده من تعرض لذلك، عدد كبير من أهم المفكرين والأدباء تعرضوا للمحاكمات الأخلاقية والقانونية، مثل بودلير وأوسكار وايلد وغيرهم. أي شخص يأتي بما يخالف السائد، سيتعرض لهذا الأمر، لكن الزمن يعيد الاعتبار لهؤلاء المبدعين، ونتأمل أن الزمن كفيل في إعادة الاعتبار لشخص وأدب محمد شكري الذي يستحق إعادة القراءة والتقدير في العالم العربي. بالنسبة للعالم الغربي، تُرجم كتابه الأول لعدد كبير من اللغات، ونحاول اليوم نقل معظم كتبه إلى اللغة الإنكليزية، وأنا شخصياً أحاول تقديمه والتعريف به في الجامعات الأميركية، حيث بدأ أدبه يلقى اهتماماً واسعاً.
- عُرفت عن محمد شكري صداقته مع أهم الكتّاب الذين زاروا طنجة، وقد وضع بعض الكتب حول ذلك: "جان جينيه في طنجة" و"تينسي وليامز في طنجة" و"بول بولوز في عزلة طنجة".. هل يمكنك أن تحدثنا عن ذلك؟
* نعم تعرف شكري على بول بولوز من طرف Edouard Roditi من أجل ترجمة كتابه "الخبز الحافي" والذي كان اسمه "من أجل الخبز وحده"، حيث أملى عليه شكري الكتاب بالإسبانية، بينما فقام بولز بالترجمة إلى الإنكليزية. لكن علاقتهما شابتها إشكالات بسبب أسئلة شكري الدائمة لبولز، وطبيعة الأول الذي كان يفضل المغاربة الأميين، وبسبب استغلال بولز لشكري الذي لم يمنحه حقوقه المالية من ريع كتابه "الخبز الحافي". أما علاقته مع جان جينيه، فكانت جيدة، إذ رافقه في معظم فترة إقامته في طنجة، محاولاً الاستفادة قدر الإمكان من نقاشاتهما حول الأدب، وكذلك كانت تربطه صداقة مع تينسي وليامز، لكنه كان أكثر قرباً من جينيه.
- أخذت على عاتقك مهمة التعريف بأدب محمد شكري في الجامعات الغربية عبر نقل أعماله إلى اللغة الإنكليزية، فماذا أنجزت حتى الآن كمترجم وكباحث؟ وما مشاريعك المستقبلية؟
* أنجزت كتباً عديدة له، منها: حكايات طنجة (دار نشر ييل، 2023) وفيها ترجمة لمجموعتي "مجنون الورد" و"الخيمة"، وقراءة سرديات محمد شكري (دار نشر روتليدج، 2024)، ووجوه (جامعة جورج تاون، 2024).
في مجال البحث لدي الآن مشروع كتابين عن محمد شكري، الأول بيوغرافيا عن حياته وأدبه وأعماله، حيث أقوم ببحث مكثف وبقراءة ومراجعة معظم الأشياء التي كُتِبت عن شكري بالعربية والإسبانية والفرنسية وبالإنكليزية، رغم قلة الأشياء التي كتبت عنه بالإنكليزية. والكتاب الآخر سيكون بعنوان "الأدب المغربي كأدب عالمي - محمد شكري نموذجاً".
في النهاية يقول الكاتب محمد برادة عن شكري في مقدمة "مجنون الورد": "يتقدم محمد شكري الطفل وحيداً ليبدأ حياة التشرد من دون أن يعرف المدرسة. يبدأ باكتشاف المدينة – الحياة من خلال أعمال يدوية متنوعة: مسح الأحذية، بيع الصحف والخضر، الاشتغال في المقاهي والمطاعم، التعاون مع عصابة للنشل، إرشاد السياح، تقليد أغاني محمد عبد الوهاب في المقاهي... يقترب الآن من سن التاسعة عشرة وقد جرب كل شيء، واستوعب طبيعة العلاقات والمعاملات، وعرف القسوة ولم ينعم بالحنان.. وذكاؤه يحثه على أن يواصل السير ليرتاد عالم الذين يتحدثون لغة لا تشبه الريفية ولا الدارجة، حتى لا تظل هناك منطقة يجهلها، وحتى لا يظل بعض الشباب من معارفه يعيرونه بالأمية. في هذه السن المتقدمة يسافر إلى مدينة العرائش بحثاً عن مدرسة ابتدائية تقبله. وهناك تعلم من التلاميذ الصغار أكثر مما تعلم من معلميه وأساتذته. وعاد إلى طنجة متعلماً، ليبدأ مغامرة جديدة ومثيرة مع الكتابة والأدب. لكن شكري الذي نخرته سوسة الحياة واغراءات التجربة لا يثقب القشرة ليرتاد الشرنقة. الحياة أولاً إدمان الكأس وإدمان الليل فراراً من البلادة والجهل ومن الجنون والموت".
لم يسبقه أحد إلى تعرية المجتمع وإظهار الأشياء على حقيقتها كما هي، بهذه الجرأة، الأشياء التي يخجل الناس من ذكرها، والتي يتقبلها القارئ العربي من كاتب غربي، لكنه لا يتقبلها أبداً من كاتب مغربي أمازيغي، تجربته الأليمة وثقافته الشخصية كانت ثروته الوحيدة في مواجهة العالم.
___________________
ولد محمد شكري العام 1935 في الريف المغربي. انتقلت عائلته إثر مجاعة إلى طنجة. صدر له: "مجنون الورد" قصص (بيروت 1979)، "الخبز الحافي"، سيرة ذاتية روائية (الدار البيضاء 1982)، "الخيمة"، قصص (الدار البيضاء 1985)، "السوق الداخلي"، رواية (الدار البيضاء 1985)، "زمن الأخطاء"، سيرة ذاتية (الدار البيضاء 1992)،"جان جينيه في طنجة " مذكرات (الرباط 1993)، "تينسي وليامز في طنجة"، مذكرات (الرباط 1983)، "السعادة" مسرحية (الرباط 1994). "السوق الداخلي" عن منشورات الجمل 1997، "بول بولز وعزلة طنجة" 1996، "جان جينيه في طنجة"، "تينسي وليامز في طنجة" 1983. "غواية الشحرور الأبيض" عن منشورات الجمل 1998. و"الأعمال الكاملة لمحمد شكري" العام 2008 عن المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء – المغرب – بيروت -لبنان).
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها