أقامت الفنانة التشكيلية السورية، فيفيان الصائغ، معرضها الفردي السادس في غاليري Blue House في دمشق، وقدمت من خلاله أربعين لوحة معظمها لوحات جدارية كبيرة، ساردةً أساطيرها المعاصرة على جدران هذا البناء الجميل الذي تملكه وتديره السيدة عفاف سالم ابنة الفنانة التشكيلية سلوى فلوح السالم، ويساعدها في إدارته ابن اختها سامر عيد. وما زال المكان يحتفظ بروح البيوت الدمشقية القديمة، حيث توجد شجرة تين معمرة، عمرها حوالي 200 عام، وعدد من الأشجار التي اشتهرت بها البيوت الشامية.
عندما يدخل الزائر للبيت الذي طليت أبوابه ونوافذه باللون الأزرق ولايزال يحتفظ ببلاطه الدمشقي القديم المميز، حيث يقام المعرض يشعر الزائر بروح الألفة القديمة، ربما بسبب الغرف والعتبات والليوان والأقواس، وربما كان مناسباً تماماً لعدد من مواضيع لوحات فيفيان ومتوافقاً معها إلى حدٍ بعيد، إذ أن بعض لوحات معرضها الحالي يصور الغرف الضيقة المزينة بورق الجدران القديم، مع وسائد وأسرة وأغطية مزخرفة.
والفنانة فيفيان الصائغ متخرجة من معهد أدهم إسماعيل للفنون التشكيلية - قسم التصوير 2001، أقامت معارض جماعية وفردية، ويعتمد عملها التشكيلي في معظمه على الأفكار، إذ تترجم أفكارها إلى لوحات. منذ بداياتها، رسمت لنفسها خطاً مختلفاً عن الآخرين، ومتوافقاً مع طريقة تفكيرها الخاصة والذاتية بالمواضيع والشخصيات والأشياء من حولها، فخلقت لفنها بُعداً قصصياً، لتعبّر عن هاجسها نحو الإنسان عامةً والمرأة خاصةً والطفل. قد تبدو مخيلتها طفولية إلى حد بعيد، لكنها طفولة الفن التي تطرح أسئلة كبيرة حول وجود الإنسان في محيطه، وخياله الذي يبني عوالم أسطورية.
نرى أن فيفيان تبتدع أساطيرها اليومية الخاصة، أساطير الإنسان الحديث والذي تربطه غالباً علاقات معقدة مع المحيط ومع الآخرين. في عدد من أعمالها السابقة، كنا نجد الجروح الغائرة للشخصية والتي تحاول اظهارها على السطح، وتظهر محاولة ترميمها من دون جدوى، ربما بطرق بدائية عفى عليها الزمن، بالخيطان مثلاً، لتعبر عن صعوبة إعادة ترتيب ورتق التمزقات التي يمر بها الإنسان في حياته وسط عصر استهلاكي متوحش تماماً يأكل إنسانيته. نجد الألم والجروح والحزن إلى جانب الجانب السحري والذي يأخذ منحاً سريالياً أحياناً، سنرى الغابات والساحرات وثمار تفاح الغواية والطيور والمفاتيح والرموز.
تنسج فيفيان سردياتها التشكيلية الخاصة، من خلال طريقة ترتيب عناصر اللوحة. سنجد البيئة الخارجية المغرقة في الغرابة، كما سنجد البيئة الداخلية لغرفة مثلاً تعيد ترتيب عناصرها بما يتناسب مع فكرتها. تعطي فيفيان أهمية كبيرة للتفكير وللتعبير بالعناصر عن الأفكار، أكثر مما تعطي أهمية للون ولتجلياته، إذ تخضع اللون للفكرة. لذلك يبدو عدد من لوحاتها أشبه بفن عريق مرافق للحكايات الكلاسيكية ومعبر عنها، وأحياناً يشبه الرسوم التوضيحية التعبيرية (الإيلستريشن) التي تساعدها على نقل الصورة الذهنية من مخيلتها وتجسيدها على قماش اللوحة. خطوطها واضحة وصارمة أحياناً. تبدو شخصياتها واقعية، لكنها، مع عناصر اللوحة الأخرى، تحمل بعداً مفاهيمياً خاصاً.
تقول فيفيان إنها تستوحي أعمالها من كل شيء حولها ومما تقرأ، وإنها استوحت عدداً من لوحات معرضها من عمل أدبي وهو رواية "الساعة الخامسة والعشرون" للكاتب كونستانس جيورجيو، التي تظهر صراع الإنسان المعاصر وحيرته ومصيره المأسوي. ولربما كانت عوالم الرواية الافتراضية المأساوية متوافقة مع العوالم الافتراضية التي تخلقها فيفيان في عدد من لوحاتها، ومع سردياتها التشكيلية. مثلاً في لوحة الساعة الخامسة والعشرون والتي تصور رصاصتين أحدهما يقف عليها عصفور وبقربها ساعة تُحاول سترَ الوقت بينما يسقط عليها صاروخ موجه. وكأن الزمن يتوقف تماما أثناء الحرب ثم يتشظى. كما نجد شخصية رجل يُظهر تمزق في وجهه مسننات قطع ميكانيكة صغيرة، كأن داخله آلة، بينما يقف على كتفه طائر أبيض.
في احدى لوحاتها، نجد امرأة وحيدة في سريرها، لكنها مندمجة مع السرير وورق الجدران والوسادة، وكأنها كأئن غريب غارق في محيط من الزخرف، أصبح يشبه أشياء الغرفة في وحدته وعزلته عن المحيط الإنساني. استخدمت فيفيان في هذا المعرض فكرة القماش المطبع لتستفيد منه كخلفية مناسبة للبيئة الداخلية لشخصيتها وللوحتها، حتى أنها رسمت فوقه في عدد من اللوحات لتدمج بين العناصر التشكيلية وبين الشخصية والخلفية، مبتكرة طريقة جديدة لإعادة تدوير القماش بالفن ولإظهار جماليات جديدة للوحة.
وتحاول ابتكار أفكار وعناصر جديدة في عملها التشكيلي لتُخرِجَ العمل من قالبه التقليدي وتدمجه في المحيط. فمثلاً، في أحد معارضها السابقة، جعلت عناصر من اللوحة تخرج منها لتستمر في صالة العرض. استخدمت دمى وكرات الصوف وغيرها محاولةً تحريك الفضاء التشكيلي وادهاش المشاهد، بينما هنا حاولت ادخال المتلقي في الحياة اليومية للوحة وشخصياتها. تركز فيفان على المرأة في معظم لوحاتها، وغالباً على المرأة التي تواجه العالم وحيدة، وكيف أن على المرأة رعاية أمها وابنتها، إضافة إلى دورها في الرعاية والحماية لمن حولها. تبدو المفارقة في إحدى لوحاتها، وهي تضع النساء الثلاث في صندوق كتب عليه الحياة، ورغم تصويرها للمرأة جميلةً غالباً في معظم لوحاتها، إلا أن هذا الجمال لا يخفي الأفكار والمعاناة والطرافة. أحياناً نرى امرأة ترتدي زي مهرج وتجلس في دلو، أو نجد نساء داخل الماء كحوريات مع أجهزة الموبايل والأسماك ومع كائنات أسطورية. كما يمكنك أن ترى الوسائد والأسرّة وتفاصيل من الحياة اليومية إلى جانب المرأة النائمة بمفردها. والمرأة المُعنفة، إلى جانب المرأة القوية القادرة على تقرير مصيرها، وتيمة المرأة وتفاحة الغواية، مرةً وهي تتكئ عليها ومرةً وهي تحملها كعبء، ومرةً تصبح التفاحة بحد ذاتها شخصية تنظر نحونا. لكن فيفيان تقتصد جداً في حضور الرجل في أعمالها، وكأنه جرح تحاول تفاديه.
تقطع فيفيان مع كل من سبقها من الفنانين. يبدو عملها جزيرة معزولة وسط المشهد التشكيلي السوري المعاصر، لا تشبه إلا نفسها، عملها عالمٌ قائمٌ بذاته، غريبٌ وغامضٌ رغم ما يوهم به من بساطة ووضوح. ينتمي الى حد بعيد لفن ما بعد الحداثة الذي نهل من كل الفنون وأقام صلات بينها، إذ سنجد تأثير الفنون البصرية الأخرى من سينما ومسرح وسيرك وملصقات والبوب آرت والإيلستريشن والكلمات والدراما. خليط عجيب من الألعاب ترتبه بطريقتها الخاصة ليخرج كنص بصري ملفت ومقروء، من خلال إظهار البعد الدرامي للوحة، التي تبدو كأنها تتحدث مع المشاهد وتسرد له حكاية ما تستحوذ على انتباهه لفترة ثم تتركه حائراً أمامها طارحةً أسئلة يصعب الإجابة عليها.
تبدو مخيلة الفنانة للحظة كأنها لا تريد أن تغادر طفولتها، طفولة حملت نضجاً من نوع خاص لفهم المحيط الاجتماعي الذي يقيد المرأة و ينمط دورها، ولفهم الواقع القاسي الذي مرت به بلادها خلال سنوات الحصار والحرب الطويلة التي ما زالت تلقي بظلالها على حياة الأشخاص الذين بقوا في البلاد ولم يغادروا، خصوصاً النساء، إذ نجد ظلالاً من تجارب نساء يعشن بمفردهن، يحلمن بالحب والأمان، تؤلمهن الوحدة لكن رغم ذلك لا تسمح لهن بالمساومة على أحلامهن.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها