الأربعاء 2024/11/13

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

"لماذا تركت الحصان وحيداً"

الأربعاء 2024/11/13
"لماذا تركت الحصان وحيداً"
حصان بليدا
increase حجم الخط decrease
يوم شاهدتُ فيديو الحصان يركض وحيداً في الشارع وتسمع خببه جدران البيوت المدمّرة في إحدى البلدات الجنوبية، وقد تركها أصحابها ونزحوا إلى جراء القصف الإسرائيلي، تذكّرت ديوان "لماذا تركت الحصان وحيداً" لمحمود درويش، الذي قرأته بشغف في منتصف التسعينيات، وأنستُ إلى دراميته وشجيته وايقاعيته ومعانيه، وفيه يمكن أن نلخص تجربة درويش بأنها تطمح إلى كتابة السيرة الشخصية للشاعر المعجونة بالملحمة الجماعية الفلسطينية والأساطير، للتعبير عن الإحساس العميق بالحنين والمنفى الجماعي والشخصي.

لا أعرف لماذا لم أكتبْ عن عنوان القصيدة في ذلك اليوم، ولماذا لم أكتب عن الحصان الشارد. ربما تسارع الأحداث وعيشنا في اللازمان واللامكان، في يوميات الحرب، جلعني أنسى ما كنت أفكر فيه. لكن بحثي عن الشاعر اليوناني هوميروس وحصان طروادة، أعادني إلى قصيدة درويش التي تبدأ بسؤال طفولي، رغم براءته، إلا أنه يحمل معاني كثيرة وعميقة: إلى أين تأخذني يا أبي؟ فيرد الأب بجواب لا نعرف إن كان يريد به التهرب من السؤال، أم يريد أن يفلسف الإجابة لولده حتى يفكر فيها جيداً فيما بعد، فيقول: إلى جهة الريح يا ولدي. ويسأل الابن أباه: لماذا تركتَ الحصانَ وحيداً؟ فيأتي الجواب مدوياً: "لكي يؤنس البيت يا ولدي. فالبيوت تموت إذا غاب سكانها"!


الحصان الشارد أو الشريد في بلدة بليدا الجنوبية، تُرك وحيداً، لكنه لم يؤنس البيت. فالبيوت دُمّرت في مجازر جماعية، صارت حكاية قاسية، صارت طرفة سوداء ودمعة. قال بعضهم: لقد نزحتُ وأخذتُ المفتاح معي. والمفتاح "في لاوعي اللاجئ الفلسطيني يحمل مغزى رمزياً مضاعفاً ذا دلالة على الذاكرة والهوية وحلم العودة. تحوّل المفتاح إلى تعويذة سحرية، تشبّث بها العجوز الفلسطيني الذي تجرّع مرارات التهجير، وتوالي النكبات"، على ما كتب الزميل أحمد زين الدين. وفي الجنوب، يتوالي تدمير البيوت في كل حرب، والغزاة هذه المرة كانوا يتلذذون برائحة البارود ومشهد النار والغبار ويلتقطون الصور وهم يفجرون أحياء وقرى بكاملها. 

هل نقول إن الحصان صار استعارة للمراحل والسياسات والحروب؟
قال المتنبي "الخيل والليل والبيداء تعرفني". وقيل إن المتنبي كان "سوبرمانياً" بالمعنى المجازي، وقتله بيته الشعري. في بداية الحرب، مع تفجيرات البيجر، قالوا إن حزب الله يعيش ما يشبه حرب حصان طروادة. ففي الأساطير اليونانية، استخدم اليونانيون حصان طروادة الخشبي كخدعة خلال حصار مدينة طروادة لدخولها والفوز بالحرب. لم يُذكر حصان طروادة في ملحمة "الإلياذة" الشعرية لهوميروس التي تنتهي قبل انتهاء الحرب، إنما أشير إليه بشكل وجيز في "الأوديسة". والحديث عن الخيول يشبه سرد ألف ليلة وليلة وشهرزاد الحكاية، ولا تنتهي فصول في الأدب والرسم والشعر وحتى التمثيل.

كان الرومان يرون في الحصان رمزاً لاستمرارية الحياة، وكانوا يقدمون الحصان كأضحية للآلهة في أول تشرين الأول/أكتوبر من كل سنة، ويحتفظون بذيله في فصل الشتاء باعتباره علامة الخصوبة. ويقال إن بوذا غادر الحياة المادية ممتطياً الحصان الأبيض المقدس. وفي ثقافات آسيا الوسطى، خصوصاً العقيدة الشامانية، الحصان مُرشد الأرواح، أي قائد الأرواح في الآخرة. ونجد هذا المعنى أيضاً في الأساطير الإسكندنافية، حيث يفوض الإله "أودين" الفالكيري، العذارى، بحمل أبطال المعارك المقتولين على الخيول إلى العالم الآخر.

و‏قيل عند العرب إن الخيل أشرف الحيوانات ذوات الأربع، وجاء في القرآن {‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا‏}‏، والعاديات جمع عادية وهي سريعة الجرى، والضبح صوت نفسها عند العدو، تقدح بحوافرها الحجارة عندما تُغير... وتشير الرواياتُ الإسلامية إلى أوصاف "البُراق"، أو "الدابة" التي حملت نبي الإسلام خلال رحلة "الإسراء والمعراج" من مكة إلى "المسجد الأقصى" في فلسطين. وقد عُرف "البُراق" باسمه هذا نظرًا لسرعته الفائقة.

وفي الغرب، ارتبط الحصان أساساً بالغزو والحروب، وهو ما تُظهره الرسوم التي تصوّر محاربي الوندال والهون على صهوات الخيل أثناء حملاتهم البربرية المروّعة. في الأدب الأميركي، يمثل الحصان الحرية والطبيعة البرية. في أعمال كورماك مكارثي، تمثل الخيول البرية روح الغرب الأميركي غير المروّضة.


(حصان "غرنيكا"- بيكاسو)

في جدارية "غرنيكا"، وهي واحدة من أشهر اللوحات في العالم، وقد خلّد فيها بابلو بيكاسو ذكرى ضحايا بلدة غرنيكا الذين ماتوا جراء قصف الطائرات الألمانية العام 1937، يقف الحصان بين أشلاء الأجساد كرمز لشجاعة أهل المدينة. نُشرت مئات الكتب التي تتحدث خصيصاً عن تحفة بيكاسو، من "الثور" الذي يرمز إلى وحشية النازي وقواه المخربة، فيما "الرأس" الذي يصيح و"الذراع" التي تحمل المصباح يشيران الى الضمير البشري الذي يلقي ضوءاً على هذه المأساة في خضم العتمة. أما الحصان، فيرمز إلى إسبانيا الجريحة المتألمة والصارخة من آثار الهجوم النازي.

لكن الحصان يأخذ رمزية مختلفة في زجليات عمر الزعني، ليس الحصان بذاته، بل وظيفته. فالشاعر يهجي السلطة: "من القنطاري لراس النبع/ اشتغل السفّ اشتغل البلع"، يومذاك، كان بشارة الخوري يسكن القصر الجمهوري في القنطاري، ورياض الصلح في رأس النبع، أما الشاعر فوجد نفسه في حبس الرمل حيث أصيب بمرض السكري وبدأت صحته تتدهور. في تلك الأيام طلع الزعني بقصيدة تمزج الهجاء بالسخرية:

"لو كنت حصان شو عَ بالي
ابو زيد خالي راسي عالي
من الهمّ خالي عايش سلطان
لو كنت حصان.
لو كنت حصان في بيت سرسق
باكل فستق باكل بندق
ما كنت بسرق زي الزعران
لو كنت حصان
من سوء حظّي مخلوق انسان
في جبل لبنان ذليل مُهان
جوعان هفيان حافي عريان
آه يا ريتني حصان".

باختصار يبدو لبنان الآن مثل الحصان الشريد في تلك البلدة الجنوبية المدمرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها