الأحد 2024/10/06

آخر تحديث: 10:39 (بيروت)

السياسيّ الألعبان

الأحد 2024/10/06
السياسيّ الألعبان
غارات ودمار ومقابر تتوسع (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
يعرف السياسيّ الألعبان كيف يلعب على المتناقضات، وكيف يقفز من حبل إلى آخر من دون أن يلقي نظرةً واحدةً على الهوّة التي تفغر فاها تحت قدميه.

لا يحرّك السياسيّ الألعبان ساكناً إلّا إذا تيقّن من أنّ حركته ستستجلب مزيداً من سبائك الذهب إلى خزانته، ومزيداً من النفوذ إلى مجالسه، ومزيداً من الخنوع لدى الناس الذين يهتفون باسمه، وينصبون أقواساً على الطرقات يكتبون عليها كم أنّ حياتهم ستكون بائسةً وتافهةً وعبثيّةً من دونه. 
قبل الحرب، كان يفاوض الأمم في قصره ويتبجّح بأنّ المسكونة بأسرها تأتي إليه كي تخطب ودّه وتبيعه وتبتاع منه. يعقد الصفقات على السمك في البحر والطيور في الجوّ والبشر والحجر في البرّ. ويتخيّل القوى العظمى جاثيةً أمامه من فرط هزيمتها ولسان حاله يقول مع المتنبّي: "أتوك يجرّون الحديد كأنّهم/سروا بجياد ما لهنّ قوائم".

غير أنّ الحرب خربطت حساباته. فإذا به اليوم يرى بأمّ العين أنّ كلّ ما بناه آخذ في الانهيار والتلاشي: الناس الخانعون لم يصبحوا أقلّ خنوعاً، لكنّهم ينامون في العراء ويصرخون، وصراخهم يؤرق رقاده. الأقواس التي حُفر اسمه عليها تتساقط الواحد تلو الآخر بينما الخراب يمتدّ مثل موجة عاتية ويبتلع كلّ شيء. آلاف الموتى الذين لم يجدوا من يُخرج أجسادهم من تحت الركام يزاولون الصمت بعد موتهم كأنّهم لم يموتوا يوماً. غير أنّ صمتهم ينغّص عليه حياته، ويشرب معه قهوة الصباح، فيتحوّل مذاقها إلى ما يشبه السمّ الزعاف.
لكن لا، وألف لا؛ لن يسمح لهذه الحرب الشعواء الرعناء الكأداء أن تهزمه. لا شيء يهمّ، فالحرب إذاً لا تهمّ. سيستمرّ في ممارسة أحابيله: يبتسم للناس الخانعين في العلن، ويستهزئ بهم في السرّ، ويقهقه من فرط غبائهم قبل أن يخلد إلى النوم. سيستدعي السفراء البلهاء كي يُنشدهم قصيدةً جديدةً من نظمه، طالباً منهم التدخّل لوقف الحرب معلناً أنّه لن يحرّك ساكناً ما لم يلبّوا له هذه الرغبة. سيجمع أصدقاءه السياسيّين من كلّ حدب وصوب كي يلقي عليهم درساً في أخلاقيّات السياسة التي تنبثق من توريات ابن المقفّع واستعارات جورج أورويل. 

لم يفهم السياسيّ الألعبان أنّ إسرائيل مستمرّة في حربها على البشر والملائكة والشياطين والعفاريت ربّما حتّى تقوم الساعة. ولم يفهم السياسيّ الألعبان أنّ الدول العظمى التي حسبها طوع بنانه شرعت تحفر له قبره بينما هي تغدق عليه حلاوة الألفاظ. ولم يفهم السياسيّ الألعبان أنّ الموتى سيأتون إليه قريباً كي يسألوه عن ثمن دمائهم وينتزعوا لسانه من حلقه. لذا، سيذهب إلى سريره اليوم وينام قرير العين بالرغم من الصراخ وهو يقول في سرّه "لم يتغيّر شيء" بينما الطائرات المقاتلة تدكّ آخر ما تبقّى من أبنية في المدينة المهدّمة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها