لم تغب عن بالي تلك الواقعة، حين اصطحبني والدي لمشاهدة فيلم سينمائي. كنت طفلاً حينذاك، لكن عنوان الفيلم بقي، لسبب ما، في الذاكرة وهو What did you do in the war, Daddy (ماذا فعلت في الحرب يا أبي؟)، شريط كوميدي من منتصف ستينيات القرن الماضي – عصر الإسترخاء والطمأنينة في لبنان، التي نفتقدها هذه الأيام. وإذا كان قُيض لنا، نحن "المحظوظين"، أن نعيش لحظات من تلك الحقبة التي انتهت مع بداية الحرب الأهلية، فإن الجيل الجديد لا يعرف عنها شيئاً، سوى ما يمكن أن يسمعه من الأجيال التي سبقته الواقعة تحت تأثير نوستالجيا متعلّقة بتلك المرحلة.
الفيلم كوميدي، كما ذكرنا، ويتضمن مواقف مضحكة مرتبطة بالحرب، بحيث تغيب عنها المآسي التي نعرفها ونعيشها في الوقت الحالي. وما من شك في أن الحروب في مجملها تتضمّن مواقف طريفة في بعض المواقع، ذات علاقة بطبيعة هذه الحرب وبمجرياتها، بحيث تختلف من مكان إلى آخر في هذا العالم المتنوّع في أوقات سلامه، وفي حروبه.
سجادة مطوية، لا ملفوفة
بعدما استسلمت السجادة – الموكيت لديّ، ولم يعد من الممكن غض النظر عن مواقع الإهتراء فيها، كان لا بد لي من شراء أخرى. قصدت سوق المدينة من دون أمل كبير في الوقوع على متجر مفتوح. لكن الحظ حالفني، وعثرت على محل لبيع السجاد والموكيت، بابه المفضي إلى الشارع نصف مفتوح، وتجمعني مع صاحبه علاقة صداقة موسمية.
استقبلني صاحب المحل كما يُستقبل الفاتحون، إذ ربما كنت الزبون الوحيد الذي يزور متجره منذ شهر. اخترت السجادة–الموكيت، وقلت له: أنا أقود الآن سيارة صغيرة وقد لا تتسع للبضاعة المشتراة، لذا سأعود بعد قليل بسيارة جيب. قال لي: لا ضرورة لذلك، سوف أطوي الموكيت وتضعه في صندوق السيارة. أصرّيت على استبدال السيارة وعدت بسيارة أخرى. قال لي من جديد: الأفضل طي الموكيت، في حين أردتُ لفّه كما تُلف سيجارة التبغ كي لا يتجعلك (علماً أن الرجل طمأنني من هذه الناحية) ولتسهيل فلشه على الأرض. بعد جدال بسيط، اعترف بالسرّ الكامن خلف قراره: يا أستاذ، طائرات الإستطلاع في سماء المدينة تراقبنا ليل نهار، وفي حال إخراج السجادة من المحل إلى الشارع، وصولاً إلى السيارة، وهي ملفوفة، فستبدو كصاروخ يُنقل من مكان إلى آخر، وآخر ما نريده، لنا ولك، هو أن نتعرّض للقصف، خصوصاً إذا وضعت الموكيت على سقف السيارة...
لا أنفي أن صاحبنا أفحمني بتصوّره الصائب، والذي يدلّ على نباهة لم تخطر في بالي. لقد فرضت الحرب علينا سلوكيات معينة، وأوجدت مفاهيم مختلفة للتعامل مع ما يتهادى في السماء، وما يجري على الأرض.
مرسيدس مرعبة
لدى أحد جيراننا سيارة قديمة في طرازها وبنيتها، بحيث أعجب كيف يمكن أن تدور عجلاتها وتدب على الزفت الذي لا يتمتع بدورة بنوعية لائقة، أو حتى عادية. وللمناسبة فإن سيارات كثيرة في هذه المدينة، وخصوصاً تلك التي تعمل كسيارات تاكسي، يعود طرازها إلى ثمانينات القرن الماضي. جلّ هذه الآليات من نوع مرسيدس، ولو لم تكن من صناعة الشركة الألمانية المعروفة بمتانة نتاجها، لما كان في إمكانها أن تسير ولو خطوة.
وبما أن الآلية قديمة، فإن صوت محرّكها صار مزيجاً من الحشرجة والصفير والفحيح. وإذ يقع منزلنا في منطقة مرتفعة نسبياً، ويؤدي إليه طريق صاعد، والعكس يكون نزولاً، فإن صوت سيارة صاحبنا وهو يهوي بآليته إلى الشارع الرئيسي، يشبه إلى حد بعيد ذلك الصوت الذي يُصدره صاروخ مما تطلقه الطائرات وهو يخترق الهواء، قبل إنفجاره المشؤوم في هدفه. صوت صرنا نعرفه، ونميّزه بسهولة، بفعل التجربة والخبرة.
هكذا، سترتجف أعصابنا كلما هوى الرجل بسيارته نزولاً، خصوصاً حين نكون في حالة سهو، نسينا خلالها أننا تحت رحمة طائرات لعينة، لا ندري كيف تختار أهدافها، وأين ستلقي قنابلها.
كنز مطمور
لدى مروري في سوق المدينة، في اليوم الذي اللاحق على قصف موقع فيه للمرة الأولى داخل المدينة، شاهدتُ شباناً يحفرون في الأرض بتأنٍ، كما كان طلابي في قسم الفنون والآثار يفعلون في المواقع الأثرية. لم أدرك السبب مباشرة، إلى أن تنبّهت أن أحد المحلات المنهارة بفعل القصف هو متجر لبيع الذهب. كان الشبان يقومون بمهمة الحفر والبحث في ظروف خطرة، إذ أن أحد أعمدة الطبقة الثانية، الذي بتره الإنفجار في وسطه، ما زال نصفه العلوي معلّقاً، وربما آيلاً للسقوط. خطرت في بالي صور الأميركيين الأوائل، الذين كانوا يبحثون في الجداول، ويتقاتلون على الملكيات، في بطاح البلد الكبير ذي الأرض الخام. الذهب هو نفسه في الحالتين، إلى حدٍ ما، لكن المكان والعصر مختلفان، حد الوجه السوريالي.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها