أثارت تصريحات مبهمة أطلقها رئيس الائتلاف السوري السابق، معاذ الخطيب، في العاصمة الأميركية بلبلة. هل أعرب عن تأييده لـ"جبهة النصرة"، التي تضعها واشنطن على لائحتها للتنظيمات الإرهابية، أم قال إنه يعارضها، أم ماذا؟ لا يهم ما الذي قاله الشيخ معاذ، فأقواله تشبه تصريحات غالبية المعارضين السوريين منذ اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس ٢٠١١، وهي تصريحات تجمع على ضرورة الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، لكنها يندر أن تظهر اتفاقاً على أي أمر آخر.
باستثناء فترة ما بين ٢٠٠١ و٢٠٠٥، لم تبد الحكومات الأميركية المتعاقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية اهتماماً يذكر بالشؤون الداخلية لغالبية الشعوب، على عكس ما تتصور هذه الشعوب التي تتخيل نفسها محور اهتمام العالم. أميركا تفضل حكاماً أقوياء حول العالم يمكنها التعامل معهم، حتى لو كان هؤلاء من اعتى الدكتاتوريين. ساهم في صناعة وتكريس هذه السياسة وزير الخارجية الشهير هنري كيسنجر، صاحب أطروحة دكتوراه تتناول اتفاقية وستفاليا الأوروبية، التي خلقت مفهوم سيادة الحكومات وحرّمت التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ما لم تبد هذه الدول عدوانية تجاه دول أخرى. كيسنجر نفسه هو صاحب مقولة إن بين حلفاء أميركا "أولاد كلب"، لكنهم "أولاد كلبنا"، أي طغاة لكنهم حلفاؤنا.
المحافظون الجدد اعتقدوا انه يمكن للولايات المتحدة استخدام قوتها العسكرية لإعادة هندسة دول العالم بأشكال ديموقراطية من شأنها ان تنهي ظاهرة "الدول المارقة"، التي كانت تقلق الاميركيين منذ نهاية الحرب الباردة. ومن شأن الديموقراطيات كذلك ان تمتص الغضب الشبابي الذي انفجر في ١١ ايلول/سبتمبر ٢٠٠١ في وجه أميركا. لكن التجربة فشلت، واستبدل جورج بوش الابن المحافظين الجدد بعملانيين من أمثال وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، التي بدأت عملية "الانخراط" مع دول كانت في مصاف الأعداء لأميركا، مثل سوريا وايران. وفي وقت لاحق، حيد بوش حتى نائبه المتشدد ديك تشيني.
اليوم تستمر واشنطن في سياستها العملانية. وفي هذا السياق، لا أهمية جيو استراتيجية لسوريا. القلق الوحيد هو أن تصدّر الحركات المتطرفة المقاتلة في سوريا عنفها إلى الغرب، وهذا أمر يمكن معالجته بإبقاء هذه التنظيمات منشغلة بالقتال، وإبقاء أعين وزراء الأمن الداخلي في أميركا وأوروبا مفتوحة تحسباً.
ويبدو أن المعارضة السورية لا تعي ماهية التفكير الأميركي، وتستمر منذ العام ٢٠١١ بتقديم معاناتها الانسانية من عنف النظام ضدها لاخراج الاسد من الحكم. لكن زمن نشر أميركا للديموقراطية ودعمها ولّى، وواشنطن مستعدة اليوم للموافقة على تسليم سوريا لأي قوة، مثل ايران، لتثبيت الوضع السوري. ويعتقد الرئيس باراك أوباما انه بتسليمه سوريا لايران، يقدم لها هدية حسن نية لاتمام الصفقة النووية معها، فإن نجحت ايران بضبط الوضع، ينتهي الارهاب المقلق للاميركيين، وإن لم تنجح، تستنزف إيران والتنظيمات المواجهة لها قوتها في مواجهة مستمرة.
البديل الوحيد الذي يمكن للمعارضة السورية انتزاع دعم أوباما له هو بناء أوسع جبهة معارضة مع برنامج حكم مفصّل. مثلاً، لو نجحت الفصائل المعارضة في كتابة دستور لمرحلة ما بعد الأسد مع ضمانات لجميع السوريين، بمن فيهم الأقليات، ثم قامت كل الفصائل بتحقيق إجماع حول الدستور الجديد وحول خطوات الحكومة الانتقالية، لوجد الأسد نفسه في موقع تفاوضي صعب، حتى لو حقق نجاحات عسكرية بمساعدة ايرانية.
ولو حقق المعارضون السوريون إجماعاً على شكل سوريا السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مرحلة ما بعد الأسد، لوجد الأسد نفسه خارج الاجماع واضطر للالتحاق به، أو الظهور بمظهر المعرقل للحلول.
لكن مشكلة المعارضة انها مؤلفة من مجموعة من "الفلاسفة الملوك"، حسب التعريف الأفلاطوني. كل واحد من المعارضين السوريين يعتقد أنه ينفرد بالحلول الناجعة لمستقبل سوريا، وينفق باقي وقته في تقريع المعارضين الاخرين في عواصم العالم، وإلقاء اللوم في الوضع السوري على عدم المبالاة الدولية.
في العقد الماضي استخدمت أميركا قوتها العسكرية للقبض على رئيس العراق صدام حسين وتسليمه الى ما اعتقدته عدالة "العراق الجديد"، ليظهر جلياً أن القضاة هم ضحايا صدام السابقين، وأنهم تحولوا إلى جلادين، فانزلوا به قصاصاً قبلياً بدلاً من عدالة مدنية.
لن تعيد أميركا تجربتها العراقية، ولن تمد يد العون لأعداء الأسد للانتقام منه. لكن الولايات المتحدة قد تبدي اهتماماً في "سوريا جديدة" مبنية على العدالة وبعيدة عن الانتقام، بغض النظر عن هوية من يثبت إجرامهم، ولو فَهِم المعارضون الفارق بين الاثنين، بدلاً من الغوص في البهلوانيات السياسية بين بعضهم البعض، لوجدوا آذاناً صاغية أكثر حول العالم.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها