قد تبدو التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأميركية، جون كيري، حول ضرورة الحوار مع الرئيس السوري بشار الأسد جديدة، لكنها في واقع الحال ليست إلا تكراراً لما دأبت واشنطن على قوله منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة السورية حول ضرورة الحوار مع الأسد من أجل خروجه من السلطة وبقاء نظامه.
وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام المختلفة سارعت إلى الاستنتاج أن المسؤول الأميركي لم يكرر ما يقوله المسؤولون الأميركيون عادة من أن الأسد فاقد للشرعية، لكن كيري ربط- في المقابلة نفسها- التفاوض "الاضطراري" مع الأسد ضمن مقررات "جنيف-١" بين واشنطن وموسكو، وهي أول وثيقة تحدثت عن العملية السياسية الانتقالية، وتفسّرها الحكومة الأميركية على أنها تعني حكماً خروج الأسد من السلطة، حتى أن كثيرين يعتبرون أن اتفاقية "جنيف-١" هي "أعلى سقفاً" من وثيقة "جنيف-٢"، التي شاركت في صياغتها المعارضة السورية.
ومثل كيري، بدت تصريحات مدير "وكالة الاستخبارات المركزية" (سي آي ايه)، جون برينان، الأسبوع الماضي، صريحة أكثر من العادة، أو فريدة من نوعها، لكن واقع الأمر يشي أن أحد أقرب المقربين إلى باراك أوباما، منذ كان يشغل منصب مستشار الرئيس لشؤون الإرهاب، لم يدلُ بما هو جديد، بل كرر ما مفاده أن واشنطن- النادمة على الإطاحة بصدام حسين ونظامه في العراق- لا تعتقد أن تغيير النظام في سوريا فكرة سديدة، بل أنها تعارضها، وتعمل على منع سقوط النظام.
لكن برينان لم يقل، ولا لحظة، أن حكومة بلاده متمسكة ببقاء الرئيس السوري بشار الأسد، ولو سأل أحدهم برينان عن الأسد، لكرّر القول إن واشنطن تعتقد أنه فاقد للشرعية وأن عليه الرحيل من ضمن عملية انتقال سياسية. والتصريحان، أي التمسك بالنظام والقول بضرورة رحيل رئيسه، هما من ضمن "نقاط الكلام" التي يكررها مسؤولو الحكومة الأميركية تلقائياً وعلى كل المستويات.
"نقاط الكلام" الثابتة هذه تعكس الكثير من تفكير الإدارة الأميركية وسياستها تجاه سوريا، فمسؤولو الحكومة الأميركية لم يتلفّظوا، منذ اندلاع الثورة السورية ٢٠١١، بكلمة "ثورة" عند حديثهم عن سوريا، ولا هم أطلقوا كلمة "ثوار" على السوريين المطالبين برحيل الأسد ونظامه، بل تمسكت واشنطن بكلمات "أزمة سورية"، وأشارت إلى الثوار بقولها معارضين، وأضافت إلى المعارضين كلمة معارضين معتدلين، على اعتبار أن فئة من المعارضين السوريين، خصوصاً "جبهة النصرة"، هم من المعارضين المتطرفين.
إذاً، لا ترى الولايات المتحدة أن السوريين خرجوا فعلياً إلى الشوارع للمطالبة بتغيير نظامهم، على غرار انتفاضات الربيع العربي الأخرى، ولا تعتبر أن رحيل الأسد هو لتلبية مطالبهم، بل ترى أن رحيل الأسد هو لتلبية رؤية واشنطن للتخلص من "العنف المتطرف"، أي أن إقامة "حكومة جامعة" في سوريا -مثل إقامة حكومتي وحدة وطنية في العراق واليمن ترافقتا مع خروج الحاكم السابق من السلطة- هي جزء من "مكافحة التطرف"، ولا ترتبط بأي طموحات تعبر عن هذه الشعوب لتغيير حكوماتها والسعي لمستقبل أفضل.
ويصرّ أوباما أن استراتيجيته هي الافضل، وهو كال لها المديح متباهياً أثناء خطابه، العام الماضي، أمام أكاديمية وست بوينت العسكرية، عندما قدم اليمن نموذجاً للشراكة مع حكومة وحدة وطنية وقوات ارضية محلية تقضي على المتطرفين، وها هو اليمن المفتت اليوم مثالٌ على نجاح أوباما المزعوم وعلى سؤدد أرائه وأفكاره لمعالجة أزمات الإرهاب في سوريا والعراق واليمن.
لكن مسؤولي أوباما يعرفون أن سياسة رئيسهم "أونطة"، ويعلمون أن أوباما ليس جاداً حتى في مكافحة الإرهاب، بل هو دفع حكومته إلى التلاعب بالألفاظ، بدلاً من تقديم سياسات فعالة، فصارت الثورة السورية أزمة سورية، وصارت الحرب على الإرهاب "مكافحة العنف المتطرف"، وتحول الثوار السوريين إلى معارضين، والمعارضين إلى ناشطين لا يسعون إلا إلى حفنة من المناصب الوزارية في حكومة وحدة مع نفس النظام الذي يشبعهم عنفاً.
ومن كبار المسؤولين الأميركيين من عملوا عن كثب مع عشائر غرب العراق، ويعرفون طبيعة السكان والأرض، ويعلمون أن لا سبيل لفوز فريق على آخر، وأنه لا يمكن القضاء على الإرهاب من دون استمالة السكان المحليين، وهؤلاء لا يمكن استمالتهم ماداموا يشعرون بالغبن، ويشعرون أن فريقهم، المحلي والإقليمي، مهزوم أمام الفرق المنافسة. هؤلاء المسؤولون الأميركيون أنفسهم هم من يجوبون عواصم العالم لتسويق سياسات في العلن يعلمون في السر أنها مضيعة للوقت.
لهذه الأسباب، أطلق مسؤولو أوباما على الثورة السورية تسمية "أزمة"، ربما لأن الثورة تعني التغيير نحو الأفضل وتحتاج إلى تضحيات وصبر، بينما الأزمة تعني مشكلة آنية يمكن العمل على تقديم الحلول لها عن طريق "تبويس" اللحى و"تطييب" الخواطر. أما إن تعذرت هذه الحلول، يمكن وقتذاك إدارة "الأزمة السورية" بالتي هي أحسن، أو الانتظار إلى أن تحل الأزمة نفسها، أو حتى يخرج الرئيس الأميركي من الحكم من دون إنفاق أي رصيد سياسي مطلوب لإعطاء الثورة السورية القوة اللازمة لإيصالها إلى ختامها.
ولهذه الأسباب أيضاً نرى المسؤولين الأميركيين يتراقصون في تصريحاتهم ويتلاعبون في الألفاظ، لكن واقع الحال هو أن أميركا ليست مستعدة لفعل أكثر مما تفعله، وهو العمل على تقليص -لا إلغاء- تنظيم "الدولة الإسلامية"، وإقامة مهرجانات دبلوماسية حول مصير الأسد. في الحالتين، إضاعة للوقت حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ويخرج أوباما من الحكم، ويسلم سياسته الخارجية لخلفه مع أقل ضرر ممكن لرصيده السياسي، ولصورته، التي سيرسمها المؤرخون الأميركيون مستقبلاً.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها