في الأيام الأولى بعد انهيار القوات الحكومية العراقية في الموصل، اشارت التقديرات الاستخباراتية الأميركية الى ان القوات المعادية للحكومة في طريقها لاجتياح بغداد بأكملها، وهو ما دفع الرئيس الأميركي باراك أوباما الى عقد سلسلة مكثفة من الاجتماعات مع فريقه للأمن القومي، للتباحث في كيفية تدارك الخطر الذي قد ينتج عن سقوط بغداد. لكن أوباما رفض في الوقت نفسه تقديم عونٍ عسكري سريع للحكومة العراقية خوفاً من أن يظهر ذلك الولايات المتحدة وكأنها منحازة لشيعة العراق ضد القوات المتمردة، ذات الغالبية السنية.
وعن طريق التواصل مع الحكومة العراقية، أدرك أوباما ان رئيسها نوري المالكي والقيادات الشيعية كانت تشعر بخطر وجودي، وهو ما جعل الرئيس الأميركي يعتقد انه يمكنه ربط انقاذ بغداد، بإعادة ترتيب العملية السياسية، وإعادة العلاقات بين القيادات الشيعية ونظيرتها السنية والكردية بعد طول توتر وانقطاع.
وبناء عليه، أرسلت واشنطن تصورها الى إيران، طالبة منها دعم السيناريو المبني على تشكيل حكومة وحدة وطنية عراقية يمكن تقديم كل المعونة لها في الحاق الهزيمة بالمتمردين، وخصوصاً تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش).
لكن طهران تتكلم بألسنة متعددة، تقول المصادر الأميركية. فبعد أن أبدى رئيسها حسن روحاني استعداد بلاده للتعاون مع واشنطن، قال مرشدها الأعلى على خامنئي إنه يرفض التعاون، ويريد بقاء القيادة العراقية الحالية على ما هي عليه. ربما تعتقد طهران ان تمسكها بالمالكي يرميه في احضانها تماماً.
على ان بقاء المالكي رئيساً للحكومة يحتاج الى أكثر من تأييد خامنئي له، في وقت يسعى المالكي الى تأجيل موضوع تشكيل الحكومة الى ما بعد قلب الصورة العسكرية على الأرض، ربما اعتقاداً منه انه لو نجح في ذلك، فهو لن يعود بحاجة الى شركاء في ولايته الثالثة، لا محليين ولا دوليين، غير إيران.
هكذا، خافت واشنطن من أن يقوم المالكي "بعمل القرود"، وهي عبارة أميركية تفيد التلاعب، لتأجيل مصادقة المحكمة الاتحادية العليا على نتائج الانتخابات. غير أن المحكمة صادقت على النتائج، وهو ما يعني، حسب الدستور العراقي، أنه امام مجلس النواب العراقي حتى آخر الشهر للالتئام واختيار رئيسه، وشهر بعد ذلك لانتخاب رئيس للجمهورية، و15 يوماً لتسمية رئيس للحكومة.
هذا الجدول الزمني الدستوري "جاء في وقته"، يقول المسؤولون الاميركيون، إذ هو يفرض تشكيل حكومة عراقية من دون التأجيل او حتى تبيان الوضع العسكري على الأرض. بعد ذلك، يتم تشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة الجميع، وهذه الحكومة التي ستسعى واشنطن الى شراكة معها في مواجهة القوات المتمردة.
لكن المسؤولين الاميركيين يعتقدون ان فترة 50 يوماً هي مدة طويلة تسمح لقوات، مثل داعش، بتوسيع رقعة سيطرتها على المزيد من الأراضي. صحيح أن خطر اجتياح بغداد صار بعيداً، الا انه كلما بقيت داعش أكثر في المناطق التي تسيطر عليها، كلما عززت سلطتها ورسختها. وينقل مسؤول أميركي في جلسة مغلقة مع صحافيين انه سمع من سياسي عراقي من نينوى ان داعش صارت ترفع علمها، بدلاً من العلم العراقي، على مبنى المحافظة.
كذلك، يُقلق واشنطن ان داعش استولت على المعابر الحدودية مع سوريا والأردن، وخصوصاً على بلدة الرطبة، التي يقول المسؤولون الأميركيون إنها ترتبط بطريق سريع بالسعودية والأردن، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لداعش لتوسيع رقعتها أكثر فأكثر، على الرغم من أن المسؤول نفسه يستبعد أن يكون لدى التنظيم المذكور العديد، والعدة اللازمة للتوسع الى هذا الحد.
ماذا ستفعل واشنطن من الآن وحتى تشكيل حكومة وحدة وطنية تشن حملة عسكرية شاملة لإعادة سلطة الدولة العراقية على كافة أراضيها؟
تقول الأوساط الأميركية ان وصول المستشارين العسكريين الاميركيين الثلاثمائة الى العراق، ومشاركتهم مع القوات العراقية على ارض المواجهات، هدفه الرئيسي تعزيز عمل التجسس الجوي، الذي كثفته واشنطن منذ منتصف الشهر الحالي. ما يعني أنه في الوقت الذي يحين موعد استعادة الحكومة العراقية لأراضيها، يكون قد تشكل لدى القوات الأميركية، بالتعاون مع نظيرتها العراقية، بنك من الأهداف يرشد القوات الجوية ويساهم في رسم الخطة العسكرية بشكل مفصل.
ختاماً، يعتقد المسؤولون الاميركيون ان التعاطي مع مشكلة العراق من شأنه ان يساهم في رسم تجربة أميركية جديدة لإقامة شراكات عسكرية مع حكومات حول العالم لمكافحة الإرهاب، بحسب السياسة التي قدمها أوباما في خطابه في اكاديمية وست بوينت العسكرية في وقت سابق من الشهر الماضي. فإن نجحت التجربة العراقية، يمكن تكرارها في مناطق أخرى في الشرق الأوسط وافريقيا، حسب المسؤولين الاميركيين.