العلاقة بين مصر وأميركا "زواج شرعي" وليست "نزوة". هكذا قال وزير الخارجية المصرية نبيل فهمي، الذي يزور الولايات المتحدة، في ثاني زيارة لمسؤول مصري رفيع للعاصمة الأميركية، منذ أحداث حزيران/يونيو الماضي، بعد زيارة مدير الاستخبارات المصرية محمد تهامي الأسبوع الماضي. لكن، على الرغم من الزيارتين ومن إعلان وزير الخارجية جون كيري إفراج بلاده عن 15 في المئة، كانت جمدتها من إجمالي المساعدة الأميركية السنوية البالغة 2 مليار دولار، لم يتوان فهمي عن تقذيع الأميركيين. وقال عشية زيارته إن القاهرة ستستمر في "تنويع" صداقاتها الدولية، بما في ذلك الحفاظ على صداقتها مع موسكو.
لكن الخلاف بين واشنطن والقاهرة، وثرثرة الأخيرة حول "تنويع علاقاتها" بتقارب مزعوم مع روسيا، هو خلاف وهمي في أحسن تقدير. بل أن التنسيق اللصيق بين واشنطن والجيش المصري لم ينقطع يوماً، منذ إطلالة نائب الرئيس الراحل، عمر سليمان، لإعلان استقالة الرئيس حسني مبارك. حتى تعيين مبارك لسليمان نائباً له، جاء بعد تنسيق بين الأميركيين وجنرالات مصر كخطوة أولى لتحييد الرئيس المصري السابق.
متابعو الشأن العربي والمصري في العاصمة الأميركية يعرفون ان الود بين واشنطن وجنرالات مصر لم ينقطع منذ اليوم الأول للثورة المصرية وحتى اليوم.
في العام 2011، وفي حمأة "الربيع العربي"، شارك مسؤولون كبار في إدارة أوباما في جلسة خاصة سأل فيها أحد الحاضرين عن سبب تلكؤ الرئيس الأميركي في الطلب من الرئيس السوري بشار الأسد التنحي، على غرار ما فعل مع نظيره المصري حسني مبارك. وأضاف السائل، إن السرعة في الطلب الى "صديقنا مبارك" الرحيل، وعدم طلب ذلك من الأسد، يظهر وكأن الولايات المتحدة تكافئ أعدائها وتعاقب أصدقاءها، فأجابه المسؤول الأميركي: "لو كان في سوريا جيش كالجيش المصري لدينا علاقة متينة معه، لتشاورنا معه وجعلنا الأسد يتنحى".
في العاصمة الأميركية، ذاك العام، سرت اخبار مفادها انه بعد مشاورات بين واشنطن والجيش المصري، زود جنرالات مصر، سليمان، باستقالة مبارك، رغماً عن إرادة الأخير، ليقرأها. منذ ذلك التاريخ والتنسيق بين واشنطن والقاهرة على أكمل وجه: لم تفتح واشنطن ابوابها للإخوان المسلمين الا بعد ان أدخلهم الرئيس السابق المشير حسين الطنطاوي في الحياة السياسية، ولم تتوطد علاقة واشنطن بالإخوان الا بعد ان اقسم وزير الدفاع، عبد الفتاح السيسي، اليمين الدستورية امام الرئيس محمد مرسي، ولم يلغ أوباما دعوته لاستضافة مرسي في البيت الأبيض مطلع العام الماضي، بعدما كال له المديح قبل أسابيع، اثناء العمل سويا لإنهاء الحرب الوجيزة بين "حماس" وإسرائيل في غزة، الا بعدما تأزمت العلاقة بين السيسي والاخوان في القاهرة.
وعندما تظاهر المصريون للمطالبة بتنحي مرسي، حضر الجيش بعربات "همفي" الأميركية الصنع لإخراجه من سكنه، وفي المواجهات العسكرية اللاحقة، توالت تقارير المراسلين الأميركيين في القاهرة عن فرارهم من الرصاص الذي كان ينهال عليهم من مروحيات "بلاك هوك" الأميركية.
وبعد قيام الجيش المصري بعزل مرسي، لم تطلق واشنطن وصف انقلاب على ما حدث في مصر، بل راح المتحدثون باسم الخارجية والبيت الأبيض يماطلون في اجاباتهم بالقول إن الإدارة في طور دراسة الأمر، وهي دراسة لم تنته حتى اليوم. على انه، تحت ضغط الكونغرس الأميركي ولحفظ ماء الوجه لأميركا "حامية الديموقراطية" في العالم، جمدت واشنطن الخريف الماضي حوالي 300 من إجمالي 600 مليون دولار، هي مساعدتها النقدية للجيش المصري. كما عمدت اميركا إلى تأجيل تزويد المصريين ببعض قطع الغيار التي لا تحتاجها القاهرة، إلا في حال دخول جيشها في حرب ما.
لكن، حتى هذه اللفتة الاعتراضية البسيطة من واشنطن لاقت امتعاضاً في القاهرة، حيث يبدو أن الجنرالات وجدوا في ذلك فرصة مواتية لتوجيه الغضب الشعبي بعيداً عن مشاكل المعيشة والاقتصاد في مصر وباتجاه أميركا، وتوجيه أصابع اللوم للأميركيين لدعمهم المزعوم للإخوان. أما أطرف ما انتجته ماكينة الدعاية العسكرية المصرية فكانت اغنية شعبية تسخر من أوباما وتمجد السيسي، وفيها صور للسيسي وهو يرتدي بزة "مارينز الصحراء" الأميركية.
لماذا تنحاز أميركا للجيش؟ للإجابة على ذلك، يجب فهم "لب المصالح" الأميركية في مصر، وهذه تتمحور حول نقاط ثلاث: امن الحدود المصرية مع إسرائيل، وتأمين الملاحة في قناة السويس، ومنح مصر للولايات المتحدة حقوق طيران عسكري أميركي فوق مصر. هذه المصالح يؤمنها الجيش المصري مباشرة للأميركيين، ويتلقى في مقابلها ملياري دولار من المساعدات، أكثر من نصفها أسلحة حربية متطورة وقطع غيار وعتاد.
عدا عن ذلك، لا تكترث واشنطن للشأن الداخلي المصري، بغض النظر عن هوية الحاكم السياسية، بل إنها مستعدة لمصادقة الإسلاميين او الجيش او أي طرف آخر، وتجاهل ممارسات أي من الحكام لحقوق الانسان، على الرغم من تصاريح مسؤولي اميركا وسفرائها المتعاقبين في القاهرة حول ضرورة احترام الحكومة المصرية لحقوق الانسان.
ثم ان الجماهير تنسى. تنسى أن أميركا لم تحدد موقفها من أحداث الصيف الماضي في مصر. تنسى أن أميركا تفرج عن مساعداتها للقاهرة على الرغم من تدهور حقوق الانسان في مصر. تنسى الجماهير أن واشنطن وجنرالات مصر في تفاهم وتناسق متكاملين لم تشوبهما شائبة يوماً.