السبت 2023/10/21

آخر تحديث: 10:46 (بيروت)

الحرب تنكأ جراح الهوية:كيف يعرّف الأطفال الفلسطينيون عن أنفسهم؟

السبت 2023/10/21
الحرب تنكأ جراح الهوية:كيف يعرّف الأطفال الفلسطينيون عن أنفسهم؟
تمضي أجيال من الفلسطينيين في بناء ذكريات جديدة تزيد من تضعضع هويتها
increase حجم الخط decrease

باي هوية يعرف الأطفال، الذين شاركوا بحماس في وقفة تضامنية دعت إليها الفصائل الفلسطينية واللجان الشعبية ببلدة تعلبايا البقاعية قبل يومين، عن أنفسهم؟ فلسطيني، لبناني، سوري؟ سؤال تأتي إجابته  في العادة تلقائياً، ولكن ليس بالنسبة لأجيال لا تزال تولد وتكبر في كنف عائلات فقدت هويتها، أو ما يعرّف عنها منذ نكبة فلسطين. وهي بما تشكله من فئة ضعيفة في المجتمع اللبناني، لم تتمكن طيلة العقود الماضية، من إنتزاع ولو حق من الحقوق الإنسانية بإقامة شرعية، وبالتالي باتت تصنف كمجموعات تقيم على الأراضي اللبنانية بطريقة "غير شرعية".

دمي فلسطيني 
تنوعت إجابات الأطفال المتحمسين في رفع رايات فصائل، بعض رافعيها قد لا يعرف شيئاً عن سيرتها، بين "لبناني- فلسطيني" و"فلسطيني - لبناني"و "فلسطيني سوري" و"نازح سوري"، الى أن أتى من يربط الهوية بالدم. حيث عبّر أحد الأطفال بكل ثقة "أنا دمي فلسطيني".

إجابة الطفل الضائع في هويته المادية، ذكرتني بجدي، الأردني المقدسي الذي هاجر من فلسطين نهائياً في العام 1948، إلا أنه في أواخر سنوات عمره، لم يعد يذكر سوى بيته بالقدس، وأصبحت العودة الى "البيت" كل ما يطلبه قبل وفاته. فكوّن جدي القناعات الكافية بأن "الهوية" تبنيها الذاكرة، الفردية او الجماعية، والتي تتراكم في الجغرفيا المسماة وطن، فيصبح الإنتماء ليس إلى المكان، وإنما لتلك الذكريات التي تشدّنا بالحنين الى "الوطن"، مهما إبتعدنا عنه بالجسد.

في كل بيت لبناني اليوم مغترب. ولكن أهلنا الذين إنتشروا في أصقاع العالم، وإستحصلوا على جنسيات ثانية من دول أوروبية وأميركية وحتى عربية، أعطتهم كامل حقوق المواطن، لا يزالون يعرّفون عن أنفسهم كلبنانيين، من دون أن يفقدوا صفتهم كمواطنين في دول إنتشارهم. هو الإنتماء بالروح الى الذكريات الأولى التي بنيت بهذه الجغرافيا الصغيرة، ولم تدّمرها كل الحروب والمآسي التي عاشها هذا البلد، وسط حرص اللبنانيين على إنعاشها من خلال مراكمة هذه الذكريات، ولو في مواسم الإصطياف والأعياد.

سؤال الهوية
كوني لبنانية من أصول أرمنية أيضاً، قد أكون معتادة على هذه المفاضلة. إذ تكرر على مسامعي مراراً سؤال الهوية نفسه الذي طرحته على هؤلاء الأطفال. هل أنت أرمنية أم لبنانية؟  أما بالنسبة لي، فكانت أرمينيا دائماً طيف بلد، خلّف فيه جدي ذكرياته الأليمة، أما ذاكرتي الفردية والجماعية التي بنت هويتي وإنتمائي، فهي في هذا "الوطن".

 ليس الحال مشابهاً بالنسبة للفلسطيني المقيم في لبنان... فهو فقد منذ أجيال الإنتماء بالذاكرة الى وطنه الأوّل، ولكن من دون أن يُسمح له في لبنان، الذي بنى فيه ذاكرة وأصدقاء وربما عائلات، أن يكتسب وطناً آخر. فعلق بين هويّة بلد إغتصبته إسرائيل وجرّدت حامليها منه، وبلد منقسم رسميا وشعبياً على كافة القضايا الوطنية والقومية، ولم يتوافق بالتالي على معيار واحد للتعريف بالفلسطيني المقيم على أراضيه. وهذا ما أبقى على صفته المتداولة عبر أجيال "مقيم غير شرعي على الأراضي اللبنانية"، مع ما تلحقه هذه الصفة من ضرر معنوي ومادي بهويته، حتى على المستوى الإنساني. إذ أن معظم الأجيال التي ولدت في لبنان منذ ستينيات القرن الماضي، وبنت فيه ذكرياتها التي تحملت من خلالها أيضاً عبء الإنتماء، محرومة من أبسط حقوقها، أكانت في العلم ومتابعته، وفي الوظيفة، أو حتى في الأحوال الشخصية، من زيجات ووفيات وتسجيل ولادات جديدة، بحيث بات في لبنان أجيال "فلسطينية" ولدت من دون هوية. وصار توق هؤلاء، وخصوصاً الشباب منهم لهجرة ثانية أو ربما ثالثة أحياناً، يخوضونها ولو على مراكب الموت، بحثاً عن أي هوية يحصلون عليها في أي بلد من بلدان العالم.

فلسطينيو سوريا والتهميش المضاعف
الأزمة التي أغرقت سوريا منذ ثلاثة عشر عاماً، فاقمت أيضاً واقع الفلسطينيين المقيمين في لبنان سوءا. فإلى تجمعات اللاجئين الفلسطينيين على مختلف الأراضي اللبنانية، إنضم نازحون سوريون من أصول فلسطينية. وبعد ان إختبر فلسطينيو سوريا الإندماج الوطني الذي ضمنته القوانين بمجتمعاتهم، وإكتسبوا صفة مواطن تساوى مع السوريين بحقوقهم المدنية أقّله، طالما أنه يؤاخيهم بإفتقاد جميع الحقوق السياسية وحرية التعبير الفردية والجماعية، عاد هؤلاء الى التقوقع داخل مجتمعات محصورة على الاراضي اللبنانية، وأصبحوا يُصنفون من خلال نزوحهم إلى الأراضي اللبنانية مجدداً، بـ"مقيمين غير شرعيين".

يشكل هؤلاء حالياً الفئة الأكثر تهميشاً بين إخوانهم الذين هجروا منذ البداية الى لبنان. هذا في وقت يُخشى، نتيجة لطول الأزمة السورية، بأن تمضي أجيال في بناء ذكريات جديدة، تضيع معها هويتهم، مثلهم مثل كل أقرانهم من النازحين السوريين الذين ولدوا في لبنان، وما عادت لهم ذاكرة فردية أو جماعية في بلدهم، لا بل تقترن ذاكرة صغارهم بالحروب والمآسي وحتى إضطهاد النظام الذي دفع بشعبه الى خارج الجغرافيا، حتى باتوا جاهزين تماماً لقطع صلة الرحم التي تربطهم ببلدهم.

استعادة الهوية
ربما تكون أحداث غزة قد أيقظت لدى فلسطيني لبنان مجددا مشاعر الإنتماء الى مكان ما في هذا العالم. ولكن ذلك لا يرتقي واقعياً الى مستوى الرغبة بإستعادة الهوية. وإنما يبقى في إطار "الغضب" الذي عبر عنه الشعب العربي عموماً، تجاه مسلسل المجازر المتكررة التي إرتكبت بحق الفلسطينيين، منذ وعد بلفور حتى اليوم. بعضه يقترن في وجدان أطفال فلسطين المهجرين، بذكريات ومآس عائلية رويت لهم عن وطن كان لهم يوماً، أو ربما بنوستالجيا من إنسانيتهم التي ترتبط بالجماعة والهوية.
فأصبح يمكن النظر الى وقفتهم المناصرة لأطفال غزة وأهلها، كتعبير يتخطى الإستنكار على المجازر المرتكبة بحقهم اليوم، إلى قلق وغضب مما يلحقه تخلي العالم وخصوصاً الحكام العرب عن قضيتهم. فيصبح الإستنكار على مجزرة الإبادة الجماعية التي تتعرض لها الهوية الفلسطينية، والتي تجلّت في لبنان تحديداً، من خلال تكوّن مجتمعات بلا هوية، وكل أمل شبابها بأن يجدوا لهم وطناً بديلا

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها