الثلاثاء 2015/07/07

آخر تحديث: 13:07 (بيروت)

الإغتراب العكاري: مردود مادّي لا يعوّض "الغياب"

الثلاثاء 2015/07/07
increase حجم الخط decrease
أن يكون عدد المغتربين في عكار كبيراً، فهذا أمر ليس مستغرباً بالنظر إلى الوضع الاقتصادي وقلة فرص العمل وإمكانات العيش في هذه المحافظة الطرفية. لكن ازدياد أعداد المهاجرين في الفترة الأخيرة، وسعي بعضهم إلى البقاء في دول المهجر، حفزا فاعليات البلدات العكارية إلى التنبيه من تحول الهجرة إلى "نقمة" تُفرّغ القرى العكارية من سكانها.

رحبة "المشتاقة"
يخرق صمت بلدة رحبة العكارية، صراخ صبية على دراجاتهم الهوائية الملونة. يتوسطون الطرق المتعرجة من دون خوف، فقليلة هي السيارات التي تمر في البلدة. ورحبة التي تحوي امكانات سياحية كبيرة وتعد مركز جذب للسياح، لما فيها من جمال طبيعي، لا حياة فيها بالقدر المتوقع، فشبابها بمعظمهم هاجروا، تاركين الساحات شبه فارغة.

تمضي أم كريم أيامها شبه وحيدة في بيت ترعرع فيه 5 أطفال، ثم هجروه تباعاً، كل منهم إلى بلد. تحاول السيدة الثمانينية بجهد تعداد أسماء أولادها من أكبرهم إلى أصغرهم، فقد جار العمر على جزء من ذاكرتها. تقول: "سافر ابني كريم أولاً إلى أفريقيا، ثم لحق به طارق، ومن بعدهما وليد وجورج. تزوجت ماري من رجل يعمل في أفريقيا، فلحقت بأخوتها أيضاً". يتواصل هؤلاء مع والدتهم بشكل يومي عبر الهاتف. "يسألون عن صحتي ويرسلون لي ما أحتاجه من مصروف، فلا معين لي سواهم بعد وفاة والدهم. كما أنهم يزورون الضيعة باستمرار، وخصوصا في الصيف، وأنا أشتاق إليهم دائماً".

ورحبة الواقعة ضمن قطاع منطقة الجومة-السهل-الشفت العكارية، لا مستندات أو إحصاءات رسمية فيها حول أعداد المهاجرين من ابنائها، إلا أن نسبة الإغتراب فيها فاقت الـ20 في المئة، وفق نائب رئيس البلدية جان فياض. ويشير فياض في حديث إلى "المدن" إلى أن "العاملين من ابناء البلدة يندرجون في قسمين، فهم إما موظفون في القطاع العام، وإما مسافرون. وقد ساهمت الأموال الإغترابية في إحداث نهضة اقتصادية في البلدة. ولا تزال الحركة تنشط وتزدهر في البلدة صيفاً، بفضل عودة العديد من العائلات والشبان إليها لتمضية إجازاتهم". لكنه يشير إلى ان العائلات التي تعود إلى البلدة بشكل دائم "قليلة، إذ يعتاد المغتربون نمط حياة معيناً في الخارج يصعب عليهم التخلي عنه. إلا أنهم لا ينسون بلدتهم، ونتيجة لكل ما قدمه المغتربون للبلدة، وخصوصاً مغتربي سيراليون في أفريقيا، أنجزت بلدية رحبة نصباً تذكارياً تكريماً لهم وضعناه وسط شارع المغتربين في البلدة".

لا تقتصر الهجرة في عكار على منطقة رحبة بطبيعة الحال، ففي بلدات عكارية أخرى الكثير من المغتربين أيضاً، ومنها بلدتا عين يعقوب والقبيات. إلا أن المفارقة في رحبة ذات الغالبية المسيحية، تكمن في هجرة العديد من أفراد الأسرة الواحدة.
تعيش أم إلياس مع زوجها وحيدين في منزلهما الكبير وسط رحبة. هاجر خمسة من أبنائها، وبقيت صغيرتها صفاء بجوارها بعدما إرتبطت بشاب لبناني. أما إلياس فقد هاجر إلى أفريقيا منذ 15 سنة، نجاح وعفاف تزوجتا في أفريقيا أيضاً منذ 10 سنوات تقريباً، أمل تزوجت من شاب لبناني مغترب في أميركا، في حين هاجر عامر إلى ساحل العاج منذ 8 سنوات. تضيف أم الياس: "حاولت ردع ابني الصغير (عامر) عن الهجرة. إعتقدنا أن بإمكانه بناء مستقبل جيد بعدما تخرج مهندساً من الجامعة اللبنانية، إلا أن فرص العمل القليلة في منطقتنا دفعته إلى المغادرة".

تجول عينا أم الياس على الصور الكثيرة المعلقة في أنحاء منزلها. تتذكر من خلالها مراحل من عمر أولادها لم تكن فيها إلى جانبهم. في أحد الرفوف استبدلت صور الأولاد بصور أحفادها، التي لم تتعرف إلى ملامح وجوههم الا من خلال "سكايب". "قصتنا مع الإغتراب بدأت في الخمسينات تقريباً. غادرت البلاد مع زوجي إلى أفريقيا، عملنا بكد وجهد وعانينا كثيراً. تركنا الأطفال في مدرسة داخلية في رحبة، واتكلنا على جدهم للإعتناء بهم أيام العطل. عندما كبر الأولاد لحقوا بنا. وبعدما كبرنا عدنا إلى هنا وهم رحلوا. لكننا لا نزال نشعر بالغربة داخل بلدنا، نظراً لأننا مشتتون".

تبرز الهجرة في عكار كسلوك فردي يلجأ إليه الشباب بهدف تطوير وتحسين ظروف حياتهم، مدفوعين بإغرءات وفرص عمل في بلاد المهجر. غير أن النتائج السلبية للإغتراب باتت أكثر وضوحاً من إنعكاساته الإيجابية على أبناء المنطقة، بدءاً من هجرة المتعلمين واليد العاملة، وصولاً إلى التحولات الديموغرافية داخل القرى، وشلل القطاعات الانتاجية الأساسية لا سيما القطاع الزراعي. وعليه، يشير الدكتور والباحث فرج زخور إلى أن "عكار لم تعرف الهجرة قبل الربع الأخير من القرن التاسع عشر، في حين أن أسبابها كانت ولا تزال تعود الى عوامل إقتصادية واجتماعية ونفسية، يأتي الفقر في طليعتها. وإذا ما أردنا مقارنة المال بالإنسان، ترجح كفة الميزان لصالح البشر، فمهما عادت الهجرة بالمنفعة المادية على أبناء القرى العكارية، فإن ذلك لا يساوي قيمة بقاء شبابها فيها، وهذا واقع يفرض مسؤوليات كبرى وحتمية على الدولة اللبنانية لناحية القيام بواجباتها تجاه هؤلاء".

ويوضح في حديثه لـ"المدن" أنه "تبين من خلال دراسات حول الهجرة في منطقة حلبا، مركز محافظة عكار، أن مهاجراً واحداً من أصل 16 مهاجراً وصل الى وضع مادي جيد وفق ما كان يطمح إليه، وأنّ عدداً قليلاً من المهاجرين يبقون على صلة بأقاربهم في المنطقة". وكان قد سبق لزخور أن أشار في إحدى دراساته إلى أن "نسبة العكاريين المقيمين بلغ في العام 2003 نحو 53% من مجموع السكان، وقد شكلت حينها أدنى نسبة إقامة في لبنان بعد الجنوب".

من جهته، يوضح مسؤول قطاع الإغتراب في "تيار المستقبل" ربيع العلي أن "الإغتراب في عكار يندرج في قسمين. إغتراب قديم، يشمل الشبان والعائلات المهاجرين إلى بلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية. وإغتراب حديث، يشمل الشبان والعائلات المهاجرين إلى دول الخليج". وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات رسمية في "قطاع المغتربين"، يشير العلي إلى أن "الإغتراب في الخمسين سنة الأخيرة بدأ يطال العائلات المسلمة، في حين كان يتركز في السابق على العائلات والقرى المسيحية. ومع إتجاه عدد كبير من الشباب المسلم إلى الهجرة، لاسيما إلى دول الخليج، باتت نسب المغتربين من الطائفتين متقاربة نسبياً. في حين تفوق نسبة المغتربين الذكور بكثير نسبة المغتربات الإناث". ويرى أن "الإنعكاسات الإيجابية للإغتراب غير ملموسة على مستوى المحافظة، إنما تطال حصراً الأفراد وعائلات المغتربين الذين تتحسن أحوالهم المادية بشكل ملحوظ. ولكن، لا أحد ينفي ضرورة الحد من هجرة الشباب العكاري لاسيما لما لذلك من تأثير في حرمان المحافظة من نخبها المثقفة وكوادرها الشابة التي يتم استغلال طاقاتها في الخارج".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها