الأحد 2024/03/24

آخر تحديث: 12:26 (بيروت)

اليسار بعد 7 تشرين الأول: سلسلة ملاحظات

اليسار بعد 7 تشرين الأول: سلسلة ملاحظات
الجواب ليس محصوراً بقيام الدولة الفلسطينية (Getty)
increase حجم الخط decrease

في ظلّ استكمال الإبادة في غزة وتوسيع مروحة الحملة العسكرية لتضم رفح ولبنان، يواجه اليسار العالمي وشقّه المحلي في العالم العربي أسئلة معقّدة حول أمور عدة، منها الموقف من الإسلام السياسي، العلاقة مع الأنظمة المجاورة، النظرة تجاه مستقبل القضية الفلسطينية ودور القوى الفلسطينية التقليدية والجديدة في تجديد توجهها السياسي، ووجهات نظر مختلفة حول التكتيك ونظرية التغيير. في الواقع، الإبادة ما زالت قائمة وتتصاعد، ومجزرة الطحين إحدى ترجماتها الأخيرة، حيث قتلت إسرائيل أكثر من مئة فلسطيني في أقل من عشر دقائق. فهل توجد مساحة لتلك الأسئلة؟

تستعد قوى المنطقة لإعادة ترتيب الجدول السياسي. هناك من يرى في الإبادة فرصة للاستثمار الشعبي باتجاهاتٍ ترغبها أنظمة الاستبداد، وهناك من يطبّع مع الإبادة والمحتل، مسروراً بالأزمات السياسية والتنظيمية التي تعاني منها حركة حماس. لذلك، ننطلق من الفرضية البديهية أنّ السياسة، والأسئلة التي توجّه وتحدد طبيعة الاستقطاب السياسي، هي ضرورة في وجه مشاريع الأمر الواقع التي تُفرض على الشعب الفلسطيني من قبل الاحتلال وداعميه. واليسار، بالحد الأدنى كلاعب إعلامي وخُطابي، هو جزء من هذا الحديث، فدوره "الأخلاقي" ليس منفصلاً عن السرديات المطروحة من قبل القوى التي تملك أدوات العنف و"الفرض" في هذه المرحلة.

التضامن الضروري
قبل اللجوء إلى النقد، علينا الاعتراف بأهمية الحركة العالمية التي استطاعت عزل إسرائيل على المستوى الأخلاقي والإعلامي، في أطر ثقافية وإنسانية مختلفة في "الغرب". اليوم، الحركة التضامنية مع فلسطين أصبحت مدرسة و"تقليداً" للحركات الاجتماعية الأميركية والأوروبية والإفريقية بشكل عام، ومصدراً مهماً لإنتاج المعرفة حول التحرر الوطني في القرن 21 عامةً. اليسار العالمي -اليسار اليهودي بشكل خاص- لعب دوراً أساسياً في تنظيم التحركات، ضرب الشركات الداعمة للاحتلال، أو بالحد الأدنى الهيئات المشاركة في التجارة العسكرية التي تخص إسرائيل وشركاءها، وتفعيل النقاش في حرم الجامعات والأقسام الأكاديمية عبر التحالفات التكتيكية ما بين الأساتذة والمنظمات المدنية والأندية الطلابية.

يتذكر إدوارد سعيد حقيقة العزل العربي في الولايات المتحدة بعد هزيمة 67، والخطاب الاستشراقي الذي هيمن على النقاش العام في المؤسسات الثقافية، والذي ترافق مع الدعم المطلق وغير المشروط لإسرائيل، وتدخل الولايات المتحدة لمساندتها في كل استحقاق "وجودي". من كان يتوقع أنّ المزاج الشعبي في الولايات المتحدة ولندن وباريس قد يتطور باتجاه مشهدٍ يضمّ مئات الآلاف من المتظاهرين المتضامنين في الساحات؟ من كان يتوقّع أن أحد أهم النقاشات اليوم في الجامعات الغربية ترتكز على طبيعة الاستعمار في التاريخ المعاصر، مع الأخذ في الاعتبار فلسطين كأبرز مثال في هذا السياق؟

استبدال المواجهة بالمظلومية والمراقبة
عمليّات الإبادة للاحتلال حوّلت غزة إلى ضحية كبرى على الساحة العالمية، مما فرض على الجميع مطلب "وقف إطلاق النار". لهذا المشهد تداعيات مادية وجدية على الخطاب، مما ينتج صوراً وأفكاراً تتمحور حول الفلسطيني "الضعيف والمسكين". ومع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي كبديلٍ عن المواجهة الميدانية، تصبح هذه اللغويات أدوات يومية للتعبير السياسي. هي تعابير المهزومية الدائمة التي سيطرت على المشهد العام في لبنان وسوريا بعد الانتفاضات الشعبية الواسعة.

أمّا بالنسبة للداخل العربي اليساري، فتواجه قوى عدة غياب حسّ المبادرة باتجاه حسم مواقف سياسية أساسية، أي غياب مواقف تطرح الأسئلة الصعبة حول تغيير موازين القوى على المدى الطويل. "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"؛ وهي العبارة نفسها التي استخدمتها الميليشيات والأنظمة العربية الحاكمة لقمع البديل الديمقراطي وتخوين معارضيهم السياسيين. و"تسليم السياسة" للأنظمة هو نتيجة مباشرة لنظرة استشراقية (واستشراق ذاتي بالتحديد) تحصر شعوب المنطقة بصفة الضحايا الذين لا قدرة لهم في التأثير على الواقع السياسي. تغذّي الأنظمة الحاكمة هكذا منظور، فهو مستوحى من النهج التشكيكي ذاته الذي اعتبر ثورات الربيع العربي وثورات 2019 وما قبلها، ما هي إلا مؤامرات من قوى دولية، حيث الشعوب غائبة عن الساحة السياسية.

من هنا، علينا الاعتراف بأزمتنا كقوى بديلة اليوم على الصعيد العربي، من دون الاستسلام لمن هو قوي، بل أن نبدأ ببناء أسس شعبية وتنظيمية لقوى تستطيع أن تغيّر الواقع المفروض علينا اليوم. النماذج كثيرة: من الانتفاضة الأولى إلى "مسيرة العودة الكبرى" 2018 إلى هبّة أيار 2021، حيث سيطر نهج شعبي فلسطيني واسع على طبيعة التحرّكات ما بين الداخل والضفة وحدود غزة.

غياب الاستراتيجيا والمشروع السياسي
في سياق سلسلة الأزمات التي واجهت العالم العربي، غابت عن القوى السياسية المسيطرة رؤية مستدامة تتجاوز الحلول المُسَكِّنة. بينما ميّزت نفسها الأحزاب والقوى اليسارية بطرح مناهج مختلفة للاقتصاد السياسي والسياسات الاجتماعية والتغيّرات الدستورية، تغيب اليوم عند جميع المعنيّين نظرة لما بعد الصراع.

انحصرت النقاشات بسجالات أخلاقويّة تسعى لتحديد "الموقف العاطفي" لكلّ من يتفاعل مع الصراع القائم على الأرض، ويصبح همّ "المناضل الإلكتروني" الحفاظ على تلك "الصيغة الأخلاقية-اللغوية" ومراقبة كلّ من ينحرف عنها. تفتقد معظم هذه المواقف لرؤية استراتيجية ومشروع سياسي هادف وطويل الأمد، وتتجنّب الأسئلة الصعبة حول تحقيق الوحدة الفلسطينية، طبيعة الدولة المستقلة، وسُبل الضغط على الاحتلال بهدف تعزيز الموقع الفلسطيني في الصراع. وهنا نتحدث عن الحوار السائد عند اللاعبين الفلسطينيين الجديين: خلق إستراتيجية فلسطينية وعربيّة تحررية موحّدة ومستدامة لا تطغى عليها مصالح دوائر ضيّقة من اللاعبين.

نظرة نحو المستقبل
اليسار اليوم أمام استحقاق تجديد نفسه مرّةً أخرى وسط تحوّلات إستراتيجية وبنيوية كبيرة في المنطقة. تتطلّب هذه المرحلة أولاً بناء مؤسسات وبنى اجتماعية على الصعيد المحلي والدولي، ليس فقط لتثبيت وتطوير أطر التضامن، ولكن أيضاً لتوضيح الخطاب السياسي المُعتمد من قبل المتضامنين. التضامن ليس أداة منفصلة عن الهوية السياسية التي ينتجها المتضامن أثناء انخراطه بالممارسة التنظيمية والخطابية اليومية. والسياسة ليست ترفاً أثناء الإبادة، بل ضرورة لحماية التضامن من الشرذمة والتخبّط والاتهامات التي تهدف إلى شيطنة القضية والمتضامنين معها. تستوجب هذه العملية مصالحة مبدئية ومادية بين "الغرب والشرق"، بين الديمقراطية والتحرر الوطني، بين التحريض والحوار، وبين الربيع العربي والقضية الفلسطينية.

ثانياً، اليسار يحتاج إلى إعادة الاعتبار لموقعه كقوّة اجتماعية وحركة سياسية واسعة ذات إستراتيجية خاصة بعيداً عن اعتبارات الإسلام السياسي. وهنا ليس المقصود كسر الوحدة الفلسطينية أو حتى شيطنة الإسلاميين، بل بالحد الأدنى إدراك أنّ التمايز حقّ سياسي، وأنّ هناك حاجة للتفاوض مع القوى الإسلامية، خصوصاً عندما نطرح أسئلة مشروعة حول سُبل المقاومة وتحديد الأهداف والمعارك والعناوين الكبرى.

أخيراً، على اليسار أن يساهم في تحديد البوصلة لقضايا المنطقة المقبلة: ما العنوان السياسي للتحرر الوطني اليوم؟ ركّز ياسر عرفات سابقاً على قيام الدولة الفلسطينية في مرحلةٍ ما، وهناك اليوم من يدفع باتجاه الحل الجذري، ولكن في سياق تتنوع فيه اللغة وردود الفعل والمواقف المنفردة، كيف يتجّه المجتمع الفلسطيني والعربي نحو قطب مؤثّر في تجديد الرأي العام التحرري؟ بالنسبة لعدد من الفاعلين الذين يطرحون الأسئلة الصعبة ما بين الداخل والضفة وغزة والشتات، أصبح الجواب ليس محصوراً بقيام الدولة الفلسطينية، ولكن أيضاً حول طبيعة المجتمع ما بين النهر والبحر، مجتمع لا يمكن أن يرى العدل والسلام من دون تفكيك البنى المجتمعية التي تبرر وتعزز الفصل والتسلّط والتمييز والاستيطان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها