الثلاثاء 2024/01/23

آخر تحديث: 14:16 (بيروت)

لا بديل عن الدولة في مواجهة الاحتلال في لبنان

لا بديل عن الدولة في مواجهة الاحتلال في لبنان
باتت السياسة فقط هواية لمن يملك السلاح والمال (Getty)
increase حجم الخط decrease

في ظلّ الإبادة في غزة واحتمالية الحرب الموسّعة في لبنان، يطرح المجتمع اللبناني تساؤلات جدية حول سُبل الحماية والتحرر، إن كان على المستوى الفردي أو الوطني. سردية حزب الله وجمهوره واضحة: في وجه الضربات والخروقات وانتهاكات، علينا جميعاً التمسّك بحزب الله كخيارٍ مقاومٍ مقابل خيارٍ استسلاميٍّ يتمحور حول الاتفاقات الدولية ومسارات السلام. أما بالنسبة لجمهور "اليمين المسيحي"، فالحماية ترتكز على "الانفصال الكامل" عن مناطق الجنوب والضاحية الجنوبية، والتي هي تحت سيطرة حزب الله الأمنية-السياسية المباشرة.

ما بين مشروع التمسّك بحزب الله ومشاريع الطلاق المجتمعي الكامل، نشهد اليوم حرباً صارمة على المساحة السياسية الثالثة التي أنتجتها الحركة الاعتراضية "اللا-طائفية" في البلد. هذه المساحة، رُغم تناقضاتها الثقافية والاجتماعية، ثبّتت مسار "بناء الدولة" كمكوّن أساسي ضمن نظريتها للتغيير المجتمعي. فـ"الدولة" كانت الردّ على الأزمة الاقتصادية و"معضلة" حزب الله والتوترات الإقليمية. اليوم، "الدولة" غائبة كمفهوم يفسّر العلاقة الممأسسة ما بين أفراد المجتمع مع تنوّع مصالحهم وآرائهم المتناقضة، وبالتالي تم تغييب النقاش حول طبيعة ودور هذه الدولة، لتصبح السياسة فقط هواية لمن يملك السلاح والمال.

الرأي العام في لبنان: السياسة للقوي
قام عدد من طلاب وطالبات شبكة مدى والأندية العلمانية بتعليق يافطة على بعض جسور بيروت، ولكن النشاط انتهى بعد بضعة ساعاتٍ على جسر الرينغ عندما "اعترض" مناصرون لحزب الله على المضمون: "بناء دولة قادرة تملك قرار حمايتنا". من التهديد بالقتل إلى سلب الياقطة بالقوة، قرر هؤلاء أنّ السياسة اليوم هي لكلّ من يملك القدرة على فرضها بالقوة. فبحسب هذا النوع من العمل السياسي، الصراع على الرأي العام انتهى؛ الرأي العام اليوم هو أداة القوي الذي يحتاج إلى خطاب تخويفي يترافق مع العنف الميليشياوي.

"السياسة للقوي" أيضاً تشير إلى إعادة إنتاج علاقة زعيم الميليشيا بجمهوره: الطاعة لمن يملك الصاروخ والخبرة العسكرية المتراكمة والحسابات الضيقة التي تدور في الغرف السوداء. فمن نحن؟ نحن مواطنون عاديون؛ ليس لدينا تاريخ حافل بالانتصارات العسكرية، ولا تجارب حُكم (فاشلة أو ناجحة) في سيرتنا الذاتية المتواضعة. كيف نتحدّى هؤلاء الذين استطاعوا أن يكونوا جزءاً من ساحات الدمّ والسلطة؟

فهكذا وصف أحدهم هؤلاء الذين يطرحون التساؤلات والتحاليل حول حزب الله وقدراته: "بعض الصحافيين اللبنانيين "المخضرمين" يكتبون مقالات [...] لتقديم سردية وتحليل يهدف إلى تخويف المقاومة وإثارة قلقها، [...] استحوا وكبروا عقلكم [...]، ما تعرفه المقاومة عن عدوها، نواياه وقدراته وتفاعلاته وحساباته وآلية اتخاذ القرار عنده، لا يخطر ببالكم، وقدرتها على الاحاطة الإستراتيجية بالصراع ومحدداته وتفاعلاته وسيناريوهاته يعجز عقلكم الارتزاقي عن تصورها".

أزمة نقيض حزب الله الطائفي
في المقلب الآخر، استطاع نقيض حزب الله الطائفي، وتحديداً حزب القوّات اللبنانية وبعض الدوائر اليمينية المتطرفة (تيار باسيل وأشباهه) التي شاركت نصرالله في تحريضه على الأقليات المهمشة في البلد منذ أشهر، في إقناع عدد كبير من الجمهور المعاكس أنّ مشروع بناء الدولة قد انتهى، والآن أصبح لبنان أمام التقسيم الحتمي. من الاعتراض على تقديم التعويض لأهالي الجنوب المتضررين من القصف إلى التعاطي مع الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان كجزر "إيرانية"، تعاني النظرية التقسيمية من قراءة غير واقعية للنسيج الاجتماعي في هذه المناطق وارتباطها الجغرافي والمُدني والبشري بالعاصمة.

في العقود الثلاثة الماضية، باءت بالفشل جميع المحاولات لمواجهة حزب الله وحلفائه من منحى طائفي أو مناطقي. ولم تكتف هذه المحاولات بالفشل بل وعزّزت الطابع الانعزالي للخطاب السياسي والاجتماعي المهيمن في البلاد، مغيّبة الترابط العضوي بين أهالي المناطق المختلفة وأحادية تجربة التهميش والقمع من نظام سياسي واقتصادي يتغذّى على التقسيم والمنطق الأصولي.

من هنا، يبقى الخطاب الديمقراطي اللاطائفي النقيض الأوّل لحزب الله والقوّات اللبنانية والأحزاب اللبنانية التقليدية كافّة. بالرغم من العوائق والعقبات التنظيمية والمجتمعية الكثيرة، أهمّها حالة الحرب والضيق الاقتصادي وشلل حركة المعارضة التنظيمي، يبقى هذا النهج الوحيد القادر على طرح بديلٍ استطاع توحيد فئات طائفية متنوعة تحت عناوين وطنية. فجمع اللبنانيين ما بين طموحات الحاضر (بناء دولة ديمقراطية اجتماعية عصرية؛ نقض التجربة الطائفية؛ والحفاظ على مجتمع تعددي حرّ) وسرديات الماضي (الاعتراف بجرائم الحرب المتبادلة؛ الاعتراف بتداعيات الاحتلال الإسرائيلي والوصاية السورية على حدٍ سواء).

لقد قدّم هذا الخطاب منظومة أخلاقية جامعة تعتبر الدستور مدخلاً لإعادة تأسيس المجتمع من القواعد. فتجمع ما بين ضحايا البلد منذ الحرب الأهلية حتى اليوم تحت شعار "استعادة أدوار الدولة"، وليس فقط على المستوى الأمني. ولطالما حذّرت من خطورة مشروع بيع أصول الدولة لإعفاء أصحاب المصارف من كلفة الانهيار. في المقلبَين، أي مقلب حزب الله ومقلب نقيضه الطائفي، نرى محاولاتٍ لخنق الفضاء العام والحوار الذي يتعلق بطبيعة السياسات والمؤسسات التي تحتاجها البلد، واستبداله بديكتاتوريات محلية صغيرة تقرّر بالعسكر بعد الفشل بالسياسة.

بناء الدولة: التحرر الوطني للقرن 21
من المغالطات الشائعة في لبنان أن يتمّ اختزال الدعوة لبناء "دولة قادرة" بالدعوة لتسليح أو دعم الجيش اللبناني فقط، فبناء الدولة أبعد بكثير من ذلك. فيما يخص الحرب القائمة حالياً، فقد أدّى غياب أسس ديمقراطية تجمع مختلف أطياف المجتمع إلى غياب استراتيجيّة رسمية تحمي المتضرّرين من العدوان الإسرائيلي. سواء كان ذلك على صعيد تأمين التجهيزات الاستشفائية اللازمة، أو البنى التحتية والملاجئ لتأمين سلامة المقيمين تحت القصف، أو الخدمات الضرورية والبدائل الاقتصادية والمعيشية لمن فقد سبل تأمين المدخول اليومي، أو شبكات حماية لازمة للأكثر عرضة. يبقى غياب دولة تستثمر في مجتمعها هو العائق الأكبر والأوضح في الأشهر الماضية. وفي ظلّ الأحداث الأخيرة، تبيّن أنّه لا يمكن استبدال الدولة على المستوى الأمني والإنساني بميزانية حزب سياسي أو ميليشيا.

ولن نملأ هذا الفراغ القاتل بجمع المساعدات من الدول الصديقة. بناء الدولة عملية تتمحور حول استخدام جهاز ضريبي واستثماري مباشر، وتسهيل الإنتاج المعرفي والتكنولوجي، وخلق فضاء عام حرّ ومنتج، والحفاظ على عملية ديمقراطية مفتوحة، وتطبيق سياسات نقدية متجهة نحو تحفيز الابتكارات والتوظيف. "بناء الدولة" ليس حلماً أو ترفاً، بل ضرورة للعيش الكريم. "بناء الدولة" يستوجب قرارات فورية وخطة منضبطة، وإرادة سياسية طموحة قائمة على رؤية. حزب الله، منذ 7 أيار 2008 حتى اليوم، يملك قدرة تعطيلية في الدولة، ولكن لا رغبة لديه في بناء مؤسساتٍ قد تتحدى شبكته الأمنية.

ومن هنا نشدّد على أهمية الأسس الديمقراطية؛ فأحد أهمّ الأدوات التي يلحظ المجتمع غيابها هي الاستفتاءات الشعبية والأطر الديمقراطية التي قد تؤمّن حداً أدنى من التوافق الاجتماعي في ظل استحقاقات بهذا الحجم. يبقى غياب هذه الأسس سبب ونتيجة في آن لازدياد التوتّرات الاجتماعية والشرخ الاجتماعي، مما يشجّع الحلول الانعزالية المبنية على أساس طائفي أو مناطقي. ويضرب قوّة المجتمع وتماسكه في وجه أي عدوان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها