فشلت المقايضة بين فيينا وسوتشي، التي جرت بين الغرب وروسيا، في تحقيق تفاهم أولي حول معالم مستقبل سوريا، ودور رأس النظام فيه. وكما أفشل النظام مفاوضات فيينا، دون أن يُلحظ أي ضغط روسي عليه. أفرغ الغرب مؤتمر سوتشي من أي قيمة نوعية، حينما قررت المعارضة، مقاطعته.
كانت الدول الغربية الفاعلة في الملف السوري، الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا، مستعدة لدعم مؤتمر الحوار في سوتشي، شريطة أن يضغط الروس على النظام للتفاوض بجدية في الجولة التاسعة من المفاوضات، المنعقدة في فيينا. لكن الروس لم يقوموا بذلك. إذ رفض النظام إجراء أي مناقشة جدية حول ملفي الدستور والانتخابات. بعيد ذلك مباشرةً، أعلنت هيئة التفاوض السورية، رسمياً، مقاطعة مؤتمر سوتشي المزمع بعد أيام.
وفي الأيام القليلة الماضية، جرى شكل من أشكال التفاوض الصريح وشبه العلني حول ملامح سوريا المستقبل، بين الروس من جهة، وبين الغرب ممثلاً بأمريكا وبريطانيا وفرنسا، وحليفيه الإقليميين (السعودية والأردن). ذلك التفاوض انتقل إلى وسائل الإعلام، حيث نُشرت طروحات الطرفين.
ورغم فشل هذه الجولة من التفاوض الإقليمي – الدولي على مستقبل سوريا، إلا أنها قد تكون الأكثر نضجاً وجدية، مما يؤشر إلى وجود رغبة حقيقية لدى معظم الفاعلين الرئيسيين، وتحديداً الروس والأمريكيين والأوروبيين، في تحقيق تسوية سياسية ما في سوريا.
الأمريكيون من جهتهم، أظهروا انخراطاً جدياً في الملف السوري، في الأسابيع القليلة الماضية، ترافق مع استعادتهم لاستراتيجية قديمة اعتمدتها واشنطن في السنوات الأولى من الصراع السوري، قبل أن يتجاهلها أوباما في السنتين الأخيرتين من ولايته. إذ أظهر الأمريكيون رغبة في التنسيق الاستراتيجي مع الحلفاء الأوروبيين والإقليميين. وتمثل ذلك في لقاء باريس الأخير، الذي تمخضت عنه ورقة تمثل تصور الحلفاء الغربيين والإقليميين لملامح الحل السياسي في سوريا.
لكن استعادة الأمريكيين لاستراتيجية التنسيق مع الحلفاء الأوروبيين والإقليميين، غابت عنه تركيا، في مؤشر إلى أن الأخيرة باتت أقرب إلى الشريك الروسي. إلا أنه في الوقت نفسه، تجري محاولات أوروبية وأمريكية، لاستمالتها من جديد، إلى صف الغرب. محاولات بدأت في زيارة أردوغان إلى باريس منذ أسابيع. وتتواصل الآن بين واشنطن وأنقرة خلال العملية العسكرية للأتراك في عفرين.
الأتراك ظهروا خلال المقايضة الأخيرة، أميل للروس، إذ دعموا مؤتمر سوتشي، وسط تسريبات إعلامية عن ضغوط تركية على المعارضة السورية، لحضور المؤتمر. وكان الأتراك، كما يبدو، قصيري الأفق استراتيجياً، إذ انحصر اهتمامهم بتحصيل أكبر مكاسب لهم في الشمال السوري، وتحديداً، في القضية الكردية. وكان الضوء الأخضر الروسي، الممنوح لتركيا في عملية عفرين كفيلاً باستمالة الأخيرة لصالح سوتشي.
لكن، ما هي نقاط الخلاف الرئيسية بين الروس والغرب في تحديد معالم سوريا المستقبل، التي اتضحت في الأيام القليلة الماضية؟
حسب النصوص المسربة، لثلاث وثائق، يبدو أن نقاط الافتراق تتركز على دور بشار الأسد، في مستقبل سوريا. ففيما يقدم الغرب، مدعوماً بالأمم المتحدة، رؤية تقلص من صلاحيات الأسد بصورة قد تفتح الباب، واسعاً، لإزاحته، خلال أو في نهاية عملية الانتقال السياسي. يقدم الروس رؤية لا تتطرق نهائياً إلى الجانب العملي من ترتيب موازين القوى، وتنحصر طروحاتهم بالجوانب القانونية والدستورية النظرية، بصورة تترك السلطة العملية على أرض الواقع، في قبضة رأس النظام بدمشق.
الوثائق الثلاث المسربة إعلامياً، هي، ورقة الحل في سوريا، المطروحة غربياً، بناء على تفاهمات لقاء باريس الأخير بين الحلفاء الغربيين والإقليميين، وورقة شروط الأمم المتحدة للمشاركة في سوتشي، التي تضمنتها رسالة وجهها أمين عام المنظمة، أنطونيو غوتيرس إلى وزير الخارجية الروسي، وأخيراً، نص مسرّب لبيان مؤتمر سوتشي المزمع اعتماده في نهاية لقاءات المؤتمر، بعد أيام.
وفيما يتطابق الطرح الغربي والأممي، بصورة شبه كاملة، ينحصر الطرح الروسي بالجوانب الشكلية من الدولة السورية المستقبلية، مرفقاً بعبارات فضفاضة عن حقوق الإنسان والالتزام بمعاييرها.
وقد يكون أبرز ما تضمنه الطرح الغربي، حول شكل العملية الانتقالية في سوريا، هو تقليص صلاحيات الرئيس بصورة نوعية، بحيث يفقد سلطة التعيين والإقالة على رئيس الوزراء، ويفقد سلطة الحل عن المؤسسة التشريعية. فيما ركز الطرح الأممي على جانب مهم أيضاً، تمثل في منح المنظمة الدولية حق الإشراف الكامل على عملية الانتخابات الرئاسية المزمعة خلال العملية الانتقالية، بصورة تسمح لها بالتحكم، شبه الكامل، بمسارها.
أما أبرز ما اتفق عليه الغرب والروس في مستقبل سوريا، هو وجود شكل من أشكال "الإدارة الذاتية"، في إشارة إلى رغبة دولية بـ "فدرلة" سوريا المستقبل.
ورغم أن الطرح الروسي حول مستقبل سوريا، يمنح النظام ضمانات الاستمرار بتركيبته الحالية، إلا أنه أغفل رفض الأسد وإيران لسيناريو منح الأكراد أو أية أقليات أخرى، إدارة ذاتية بصلاحيات موسعة. ويبدو أن الإيرانيين يراهنون أساساً على فشل مساعي التفاهم بين الغرب وروسيا، بصورة تسمح لهم بإبقاء الوضع على ما هو عليه، لأن أي تفاهمات دولية، ستنال من نفوذهم الميداني الواسع على التراب السوري. وقد تم تأكيد ذلك بشكل جلي في الطرح الغربي لمستقبل سوريا، الذي تحدث عن انسحاب "الميليشيات الأجنبية"، التي تشمل بصورة رئيسية، الميليشيات الشيعية المدفوعة من إيران.
وهكذا يبقى التساؤل، كيف سينعكس فشل فيينا، وإفراغ سوتشي من أي قيمة نوعية، على محاولات التفاهم الغربية – الروسية في سوريا؟، هل نحن باتجاه تأجيج للمسار المسلح كوسيلة ضغط بين الطرفين؟، أم سنشهد جولة تفاوضية جديدة، غير مباشرة، بين الغرب وروسيا؟
يتوقف الجواب على تطورات الموقف الأمريكي، في سيناريوهين مرتقبين، الأول، هو انخراط الأمريكيين مجدداً في سياق دعم فصائل المعارضة، ليس فقط على الصعيد السياسي، بل على الصعيد الميداني أيضاً، من جديد. على أن يكون ذلك الانخراط، وفق رؤية استراتيجية تستهدف موازنة الضغط العسكري الروسي المُرتقب في الميدان السوري، بعد الصفعة التي تلقتها موسكو، حينما رفضت المعارضة حضور مؤتمرها المزمع في سوتشي.
وهو سيناريو، عملت المعارضة، ممثلة في هيئة التفاوض والحكومة السورية المؤقتة وبعض الفصائل، وكذلك في شخصيات مستقلة، على تفعيله عبر لقاءات مكثفة مع مسؤولين رفيعي المستوى في واشنطن، خلال بداية العام الجاري. وقد أُشيع حينها عن تلمس قوى المعارضة رغبة أمريكية جدية في إعادة إحياء انخراطها الفعال في دعم المعارضة.
أما السيناريو الثاني، فهو حصر واشنطن أوراقها في كفة "قوات سوريا الديمقراطية"، وإحكام السيطرة على شرق الفرات الغني بالموارد، ليكون ورقة الضغط على الروس والنظام بدمشق. وهو ما يعني ترك كل فصائل المعارضة السورية عُرضة للانتقام الروسي المرتقب بعدما رفضت هيئة التفاوض المعارضة، المشاركة في مؤتمر سوتشي.
ورغم أن المشاركة المرتقبة للأمم المتحدة في سوتشي، قد تخفف من الغضبة الروسية المحتملة، أو تلجمها قليلاً، إلا أن غياب التكتل الأكبر للمعارضة السورية عن فعاليات المؤتمر سيُفقده أي قيمة نوعية. وهو ما أنذرت روسيا بالرد عليه عسكرياً.
وهكذا، يكون السؤال الحاسم في الفترة القادمة؟، هل الأمريكيون جادون في دعم المعارضة السورية في وجه تصعيد عسكري روسي محتمل؟.. بطبيعة الحال، لا يمكن الرهان كثيراً على الأمريكيين، الذين أثبتوا أكثر من مرة، هشاشة رهان حلفائهم عليهم. لكن في الوقت نفسه، لا تستطيع المعارضة السورية الذهاب إلى سوتشي دون غطاء غربي وإقليمي، لأن ذلك يعني، استفراد الروس بهم، وترتيب المشهد السوري بما يخدم بقاء نظام الأسد، برأس هرمه، دون أي تغييرات نوعية مرتقبة، ولا حتى في المدى المنظور.
وبالتالي، لا يبدو أن لدى المعارضة السورية، ممثلة في أكبر تجمع سياسي لها في هيئة التفاوض، أي خيار آخر، إلا الرهان على انخراط أمريكي فعّال، قد يتيح المجال لموازنة النفوذ الروسي على الساحة السورية، بصورة تسمح بإيجاد مسار تفاوضي جدّي، يؤسس لعملية انتقال سياسي في المستقبل القريب لسوريا. وعلى المعارضة البحث في كل السبل الممكنة لتفعيل هذا السيناريو بالتحديد.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها