اذا كان الحديث عن مسار الحراك الشعبي اللبناني يتخلله الكثير من الرومانسية، التي تبث فيه وهماً يتزين بالأمل، الا ان الوصف يبدو مفيداً لرسم توجهه المستقبلي. فمن المؤكد ان الحراك الذي بدأ بعشرين ناشطاً وغدا في ما بعد يملأ الساحات في وسط بيروت، يمتلك إلى حد كبير حصانته الداخلية، وإن كانت حصانة هشة في كل شيء. فالواضح ان تعدد الفئات الشعبية والاقتصادية المشاركة فيه تُبعد شبح الفشل ولو في الفترة المقبلة على أقل تقدير. الحراك تغيّر، لكن الخطوط العريضة للمطالب لا زالت موجودة. الا ان أهداف المشاركة ومعها انعكاساتها الايجابية على كثير من المجموعات هي الأمر الملفت.
يرسم الحراك بنجاحه عددياً في كل مرة، خطوطاً حمراء جديدة على الساحة السياسية. فقبل كل مظاهرة ليس كما بعدها، وأعمدة الهيكل الطائفي ليست آنية السقوط، انما تشققاتها بدأت تظهر أكثر فأكثر. هذا النجاح الشعبي عددياً لا تزال فيه هفوات تنظيمية تطفو على السطح. هفوات، وان أصر المنظمون على عدم وجودها، فهي تعود لتخلق هذا الشرخ بينهم وبين المجموعات الأخرى المشاركة.
لم يعد خافياً ما حصل في الاعتصام الأخير في 9 أيلول. هناك المنصة، المنبر، الشاشة والأغاني التي أخفت أصوات المشاركين، وكلها اجتمعت سوية مظهرة الشرخ بين "طلعت ريحتكم" والمجموعات الأخرى. لم يبالغ من أطلق على الاعتصام عبارة "كرنفال"، خصوصاً في تذكيره بالاحتفالات الحزبية. ما حصل في الساحة لم يكن مسألة تنظيمية فحسب، فتأمين الحماية للمنصة من قبل المنظمين ومحاولة منع المشاركين من الدخول الى ساحة رياض الصلح، ليلاً، يضاف اليها "الحاجز البشري" بين المتظاهرين والقوى الأمنية، كأنها كانت تقول بلسان الحملة "نحن هنا، بدأنا كل شيء، ونسيطر على كل شيء".
وهذا ما يمكن تفسيره بالمحاولة الحثيثة للحملة لمنع ما يسمى بـ"ديناصورات السياسة" من الاستيلاء على الخطاب، وهذا ما نجحوا فيه مبدئياً إلى الآن. اعادة الزخم الخطابي للشباب يمثل النقطة الايجابية للتنظيم في 9 أيلول، مع تسجيل بعض الملاحظات على هذا التمثيل الشبابي. تجر هذه الملاحظات معها حيثيات أصبحت، رغم تعقيدها الايديولوجي، غلافاً لكل تحرك. ففي هذه المشاركة الخطابية الشبابية، يختفي الاطار اليساري مقابل صعود وهج المجتمع المدني الليبرالي إلى حد كبير. ليس الاختلاف الايديولوجي بجديد على الساحة، بل كان جوهرياً في المطالب المعلنة منذ بدء الاحتجاجات، وغدا أكثر وضوحاً مع انقسام الحراك بين ساحتي الشهداء ورياض الصلح، أو أصبح يعرف بـ"المندسين" مقابل "المنظمين".
كليشيه العملة ذات الوجهين هي أفضل تعبير عن الشرخ الحاصل الآن. فمن ناحية، الساحة والشارع عادا للشعب، وللفئة الشبابية التي أكدت مجدداً أنها "تعرف طريقها". ومن جهة أخرى، اختلاف المجموعات وطرق تفكيرها وأرضية عملها أمور ايجابية أكثر منها سلبية على الحراك. وما يوحد الجميع في الساحة، ربما، هو تشريع كل الادارات العامة للشعب، فاعتصام وزارة البيئة كان مفاجأة وسابقة، وهو لن يبقى وحيداً بسبب حاجة الحراك الآن اكثر من أي وقت مضى الى تصعيد ينقل قوته الشعبية الى أصداء طاولات الحوار الجانبية والشاملة.
هكذا، بدأت الساحة تنضج لتحتوي تناقض التفكير الشبابي السياسي، ما بين اليسار الواضح في معارضته للنظام اللبناني انطلاقاً من بنيته الرأسمالية، وسيطرة الهيئات الاقتصادية عليه. وفي الضفة الأخرى هناك الميول الاصلاحية للنظام التي تظهر عند مجموعات أخرى.
في البعد اليساري للمشاركة بنية جديدة بدأت بالظهور علنياً. وهي إما ملت من التنظيمات اليسارية المعتادة أو تتمسك بها، ولكنها تستعين بالشارع لتقويتها. والحالتان لا تخفيان الصحوة المطلبية التي عاد اليسار ليمتطيها مكملاً مسيرة حنا غريب النقابية. لهؤلاء المسار واضح، لا سبيل للتغيير من دون فتح كل الملفات، من خصخصة الباركميتر الى الاملاك البحرية، وبينهما "سوليدير". كل شيء أصبح "حلالاً"، فالساحة مفتوحة للجميع.
يضاف الى ذلك مشاركة المجموعات الطلابية وبشكل منفرد أحياناً، معلنة استعادتها للقوة التاريخية التي مثلتها. وهذا ما يعد من أبرز النقاط الايجابية للحراك أيضاً. فثقل هذه المجموعات على طاولات التنسيق، وفي الشارع ينذر، وان كان بملامح غامضة، الى انتقال النضال الطلابي سياسياً إلى مرحلة أخرى. لكن ممثلو هذه المجموعات لا يخفون أولوية العمل الجامعي، عندهم، كاطار لهم، مع ذلك يمسكون مجدداً بأطراف الشارع والساحة في محاولة لتأمين انعكاسها داخل جامعاتهم. مثال ذلك العريضة التي قدمها "النادي العلماني" في "الجامعة الأميركية" في بيروت، والتي وقع عليها مجموعة لا يستهان بها من الاساتذة، للضغط على ادارة الجامعة من أجل مقاطعة أركان السلطة المسؤولين عن القمع والعنف ضد المتظاهرين.
من هنا يظهر الحراك أهدافا ربما تكون معرضة للفشل وبخاصة بعيد طرح خطة معالجة جديدة للنفايات، لكنه يخفي في طياته بداية عصر جديد للنضال الشبابي، لا ينتهي مع توقف التحركات. اكثر من ذلك، يعلن تصادما مع السلطة السياسية، مع اركانها، مواكب مسؤوليها، ومباني ادارتها العامة. فالمؤكد ان ما بعد الصحوة المطلبية ليس كما قبله.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها