لطالما تجنبت سمّية (اسم مستعار) الجلوس في المقعد الأمامي من سيارة الأجرة. لكنها اضطرت لذلك مساء الأربعاء 10 شباط 2010 لأن المقاعد الخلفية لسيارة الأجرة التي استقلتّها من الدورة بإتجاه انطلياس، لم تكن شاغرة. أوصل "السرفيس" الركاب الثلاثة، وقبل أن تلاحظ، وجدت نفسها على سكة مختلفة عن تلك التي تسلكها عادةً.
سألت السائق مراراً لكنها ظنّت انه لم يسمعها. سألت مرة اخيرة لتأتيها إجابة مختصرة مرفقة بنظرة لم تجد سميّة تفسيرها: "لمطرح رح تحبّيه"، ثم تكفّل توقف السيارة في موقف للســيارات في منطقة مقفرة ومعتمة، وصوت القفل المركزي بشرح كل شيء. أمّا اولى ردود الفعل، كانت محاولة دفع السائق عنها، لكن المحاولة ارتدت عليها. صفعها، راحت تصرخ، رغم "انني كنت متأكدة ان احداً لن يسمعني لكن الصراخ كان كل ما استطعته حينها". عراك متكرر، إنتهى بفتح قفل السيارة، "ترجلت من الســيارة بسرعة وركضت".
في اليوم التالي، توجهّت إلى جمعية تعنى بقضايا العنف ضد النساء. وجدت في استقبالها عاملتين اجتماعيتين. حدّثتاها عن "لزوم عدم لوم الذات على ما حصل"، وأفاداها بأن عليها أن تستعيد عافيتها، بمساعدة اختصاصي نفسي، لتستذكر كل التفاصيل إن أرادت التقدم بشكوى ضد المعتدي، وأن تكون قد تذكرت تفاصيل شكله، حتى يقبلوا بفتح ملف. لكن وحتى مع ذلك، "لن تستطيعي سجنه، لأنك لا تملكين دليلاً على اعتدائه عليك"، قالتا.
"لكنني اردت ان ابلغ بما اعرف واذكر". لذا بعد أيام من الحادثة، قررت المحاولة مع الدرك لمعرفة اذا كنت استطيع ملاحقة "المجهول".
إستوقفت سمية دورية لقوى الأمن تسألهم، انهالت عليها الأسئلة: "هل أخذت رقم السيارة؟ واسمه عن اللوحة الأمامية؟ وين أخدك؟ شو عمل معك؟ حط يده عليكِ؟" أخبرتهم بأنها فرّت من السيارة ولم تنظر إلى اللوحة الاسمية ولا إلى رقم السيارة. "ايه شو بعملّك يعني؟ ما فيني اعمل شي اذا هيك!، اصلاً بدك تروحي على المخفر"، اجاب بنبرة لطيفة مُتوقعة. توجهت إلى المخفر لتقديم شكوى. طلبوا بطاقة هويتها. ثم انتظرت طويلاً ليقولوا لها بعد الإنتظار إن المدعّي العام، الذي يفترض وجوده لتقديم شكوى، لن يحضر اليوم. و بعد طرح الأسئلة: "أين وقعت الحادثة؟ كيف كان رد فعلك؟ شو عملّك؟ أين وضع يديه؟"، طلبوا منها العودة "غير يوم". لكنها لم تعد.
غياب الآلية الحمائية
سمّية من القلة التي تجرأت وأقدمت على الخطوة الأولى للتبليغ، اذ نادراً ما يتم التبليغ عن جرائم العنف الجنسي، بسبب "خوف الضحية من الوصمة او من الاّ يُصدق كلامها او ان تُلام على ما حصل لها، اضافة الى الإحساس بالذنب ولوم الذات"، حسب ما تشير الإختصاصية الإجتماعية والمسؤولة عن مركز الإستماع والإرشاد في جمعية "كفى عنف وإستغلال"، ريما ابي نادر. لكن ثمة ما يغذي هذه الوصمة ويدفع بالناجيات الى الصمت ولوم الذات، فقلة المراعاة والإستخفاف الذي تعامل بهما عناصر الدرك التي لجأت اليهم سمّية، لا شك ينسحب على شكاوى اخريات. وما البلاغ الذي صدر عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي مؤخراً بتوقيف رجل إعترف بإرتكاب اكثر من 50 جريمة اغتصاب وتحرش وسلب في محافظة جبل لبنان، وآخر لإرتكابه جرائم اغتصاب وسلب في الشويفات، الا دليل إضافي على تعاطي الجهات الأمنية الرسمية مع هذه الجرائم بتسطيح وإستخفاف شديدين. طلبت المديرية في البلاغ، من النساء الضحايا، الحضور الى مفرزة بعبدا للتعرف على الجناة، فيما لم يصدر عن المديرية اي تحذير عام للنساء، من جرائم السلب على الأقل، في فترة وقوع الجرائم، الى يوم إصدار التعميم بتوقيف الجاني، ما يعني ان اكثر من 50 جريمة عنف جنسي وقعت في ظل صمت الجهات الأمنية وغياب اي آلية حمائية لنساء هذه المنطقة. لكن رغم ذلك، فإن "التغيير ملحوظ على مستوى الذهنية واسلوب التعامل مع قضايا العنف الجنسي لدى عناصر الأمن الداخلي"، بحسب ابي نادر التي افادت ان قوى الأمن الداخلي اتصلت ب"كفى" للإستعانة بمساعدة إجتماعية في الحالة المذكورة.
يفيد مصدر رسمي في قوى الأمن الداخلي ان جرائم العنف الجنسي – من إغتصاب غير زوجي وتحرش – "غير موّثقة" في وحدات الأمن الداخلي، والتعامل معها "غير منهجي". كما ان المخافر غير مجّهزة لإستقبال ضحايا العنف الجنسي، فقلة قليلة منها مجهّزة بالغرف الزجاجية مثلاُ، التي تسمح بتعرّف الناجية على الجاني بما يضمن الحدّ الأدنى من الأمن النفسي والجسدي لها. لكن "تدريب "كفى" لعناصر قوى الأمن الداخلي على التعاطي مع جرائم العنف الأسري، شامل ما يسهم في تنمية قدراتنا في التعامل مع هذه الحالات"، يؤكد المصدر.
في حالة المعرفة السابقة بين المٌغتصب- المتحرش والضحية بحيث تستطيع الضحية التعرف على الجاني، يشكل تقديم شكوى قانونية ضده احد خياراتها، لكن ورغم اهمية المتابعة القانونية، "تبقى المتابعة على المستوى النفسي هي الأهم"، على حد تعبير ابي نادر. لكن وصول الناجية الى المخفر لا يعني وصولها او إحالتها الى مساعدة إجتماعية او إختصاصية نفسية. عليها ان تتصل بهم بنفسها. في حال كان الإعتداء حديثاً نسبةً لوقت التبليغ، يستدعي المخفر الطبيب الشرعي، وتشرح ابي نادر ان الطبيب قد يستطيع اثبات الإعتداء لكنه قد لا يستطيع إثبات الإغتصاب او الإعتداء اذا كانت آثاره سطحية والجروح الناتجة عنه خارجية. ففي احدى الحالات التي تابعتها "كفى"، تقدمت ناجية بشكوى ضد مٌغتصبها – وكانت على معرفة وصداقة به – كما الكثير من الحالات بحسب ابي نادر- وقد تمكن الطبيب الشرعي من إثبات حصول الإغتصاب لأن الجاني استخدم ادوات حادة لإغتصابها. وان كان هذا يثبت شيئاً، فهو ان الأزمة لا تكمن فقط في امتناع الناجيات عن الإثبات بل في صعوبة اثبات الجرم اذا لم ينتج مجزرة في جسد الناجية.
الخدمات متوفرة لكن متفرقة
لكن الإمتناع عن التبليغ عن وصعوبة إثبات الجرائم الجنسية ليس محصوراً بضحاياه في لبنان. اذ ان دراسات عديدة منها ما صدر عن منظمة العفو الدولية في المملكة المتحدة (2007) ومؤسسات حكومية في المملكة المتحدة (2013) والولايات المتحدة (2014) تشير الى ان الإمتناع عن التبليغ، للشرطة، الأصدقاء وحتى العائلات، عن هذه الجرائم هو العائق الأبرز امام الإحصاء المنهجي لوتيرتها. تقدر الأرقام الرسمية في "انكلترا وويلز" للعام 2013 ان معدل النساء اللواتي يتعرضن للإغتصاب سنوياً هو 85.000 واللواتي يتعرضن للإعتداء الجنسي نحو 400.000 وان 28% من اللواتي تعرضن "لأخطر الإعتداءات الجنسية" لا يخبرن احداً به وفقط 15% من اللواتي يتعرضن لعنف جنسي يبلغن الشرطة، ليبقى معدل الإدانة والتجريم ما دون 6%. كما وجدت دراسة ممولة من وزارة العدل الأميركية نشرت حديثاً ان نسبة حالات الإغتصاب التي تُلاحق قانونياً (ولا تدان بالضرورة) تتراوح بين الـ 8 والـ 37%، اما نسبة حالات الإعتداءات الجنسية التي تدان فتتراوح بين الـ 3 والـ 18%.
غير ان الأرقام ليست متوفرة في لبنان، اذ لا جهة رسمية ولا اهلية توّثق حالات العنف الجنسي، لذا فلا صورة واضحة عن تواتر هذه الجرائم ونسبة وقوعها وإدانتها، وذلك ليس فقط بسبب امتناع الضحايا عن التبليغ بل ايضاً بسبب غياب آلية توثيق لهذه الحالات في وحدات الأمن الداخلي والمخافر. وان كان توثيق هذه الحالات صعباً، فتأمين الخدمة المتكاملة لضحيته او الناجية منه اصعب. تتوفر في لبنان كل الخدمات الضرورية: الطبيب الشرعي وكذلك الأختصاصي النفسي والعاملة الإجتماعية والخدمة القانونية ومراكز الإيواء، لكن كل خدمة متوفرة على حدة، فالمخفر لا يحيل الضحية المشتكية الى عاملة نفسية او الى مركز ايواء، لذا تجد ضحية العنف الجنسي نفسها لوحدها في بيئة غير صديقة ان لم تكن عدائية. لذا "الخدمة النموذجية لضحية العنف الجنسي هي مركز يحصر كل هذه الخدمات في مكان واحد: طبيب شرعي، مركز ايواء، أختصاصيين نفسيين ومساعدين إجتماعيين في مركز واحد تلجأ اليه الضحية فتتلقى كل المساعدة اللازمة"، تفيد ابي نادر.