الخميس 2024/11/14

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

محمد ناصر الدين: ليل جنوبي عميق.. وبيوتنا تشعر باليُتم

الخميس 2024/11/14
increase حجم الخط decrease
مع ابتداء المسار الجهنميّ منذ سنةٍ ونصف السنة، وتكثّفه في الشهرين الأخيرين محولًا المدن والقرى في الجنوب والبقاع والضاحيّة الجنوبيّة إلى أرضٍ يباب؛ تظهر خصوصيّة المكّان عند أهله، كعنصرٍ سائلٍ، مفقود، ومتوافر فقط في ذاكرتهم، وهم قابعون في "اللاأمكنة" الموقتة والعابرة. في خضّم هذه الوحشة الجماعيّة الّتي ينوء بحملها اللّبنانييون والمُهجّرون منهم خصوصًا، تحاول "المدن" لملمة هذه الذاكرة المكانيّة والجمعيّة وتدوّينها، في محاولةٍ لإنعام النظر أكثر في مآلات الأماكن الملعونة بالحروب المتكرّرة. وما هذا سوى اجتهادٌ لأرشفة هذه الحقبة من تاريخ لبنان، عبر سِيرٍ شخصيّة تصلح لأن تكون مُعبّرة عن سيرة الجماعة والبلاد. هنا حلقةٌ ثانيّة، مع الشاعر والمترجم والأستاذ الجامعيّ محمد ناصر الدين.

"آخر ذكرى لي عن البيت القديم في سُجد، كانت في العام 1983، أتذكر جيّدًا عندما دخل عصفورٌ صغيرٌ من شباك المطبخ، وهرعنا أنا وأخوتي وسائر الأطفال لالتقاطه واللعب به، فما كان من جدتي، الّتي كنت أظنّ أنّها امرأة شديدة، مُحبّة للثأر بيّد أنّها فقدت ابنتها الصبيّة أولى سنوات الحرب الأهليّة وتحديدًا في العام 1976، إلّا الصراخ بنا وتأنيبنا. أتذكرها جيّدًا تتسلّق الرفوف الخشبيّة بعدها، مُحدّجة العصفور المذعور بنظرةٍ شاعريّة وهامسةً بشيءٍ غير مفهوم، ليقترب منها. ضامةً إياه بين يديها الإثنين، خرجت جدتي باتجاه المدخل، مجتازةً ممرّ الورد، لترميه في الهواء". تتغضن ملامحه وهو يردف: "عندما ارتفع العصفور في السّماء، لحظتها فقط لحظتها، أنا ابن الخمس سنوات أدركت معنى أن تتجسد الحريّة بحركةٍ تلقائيّة مدفوعةٍ بحنانٍ أموميّ مثل هذه".

مُحاطًا بعشرات الكتب في مكتبةٍ ليست له في شارع الحمرا، يروي لنا محمد ناصر الدين، عن تغريبته المستمرة والموصولة منذ ولادته حتّى اللحظة، بل عن اغترابه القسريّ عن ثلاث منازل. يحكي لنا ناصر الدين، عن جدّته –أولى صنّاع ذاكرته– وعن أمّه الّتي شاركته رسم خريطةٍ لمنزلهم القديم في بلدة سُجد الجنوبيّة، الذي دُمّر للمرة الأولى في العام 1985، وعاد ودُمّر في الحرب الإسرائيليّة الرابعة على لبنان مرةً أخرى. يُبعثر ناصر الدين ذاكرته المكانيّة، ويُعيد ترتيبها أمامنا على الطاولة الخشبيّة الّتي تستلقي عليها الخريطة المرسومة بخطّ اليدّ، طارحًا بين الفينة والأخرى سؤالًا وجوديًّا لا بد منه "هل حُكم علينا أن نُعيد إعمار بيوتنا وذكرياتنا ومن الصفر كل فترة؟".

المكان إذ يندثر
يستهل الشاعر الجنوبيّ سيرة "تغريبته" عن منازله الثلاث، بالتغريبة الأولى عن منزل عائلته في بلدة سُجد (وهي إحدى قرى قضاء جزين)، قائلًا: "تفاصيل البيت الجنوبيّ القديم لا تزال ماثلةً في ذاكرتي بوضوح، أتذكر ممرّ الورد الجوري عند مدخله، حيث إلتقط لي أهلي صورتي الأولى عندما كنت في الثالثة من عمري سنة 1980، أتذكر أحواض ورد الأكاسيا والأضاليا والبانسيه الّتي كانت تزرعها أمّي، وأتذكر جليًّا الباحة الأماميّة للبيت حيث كان يتمّ وضع 8 طاولات للعب ورق الشدّة للتسلية في الليل الجنوبيّ العميق والطويل. أتذكر هذا البيت جيّدًا، حيث كان كل شتاءٍ يُطمر بالثلج، أتذكر الدِعة والأيام الرائقة فيه، حتّى طُردنا منه في تموز العام 1984 ليُهدم بعد سنة ويندثر عن وجه الأرض ومعه مكتبة أبي الّتي كانت تضمّ المئات من المخطوطات والكتب ودواوين الشعر العربيّ وشعر جبل عامل".

(صورته الأولى في بيته الجنوبيّ)

يستطرد قائلًا: "في العام 2000 وبعد التحرير عُدنا، وبنينا فوق أطلال البيت القديم منزلًا عائليًّا، لم يكن عمرانه كسلفه، إلّا أن شجرة السنديان الّتي زرعها جدّي قبل التغريبة بقيت ومعها هيكلٌ قديم وصدئ لمجسم سيارةٍ لعبة كان قد اشتراها لي خالي من الكويت. شيّدنا بيتًا ليجتمع فيه الأولاد والأحفاد، فيما لم يبق في سجد أي "لعيبة ورق".."، مبتسمًا يقول: "كان بيتًا جميلًا ولا أتذكر منه سوى وجه جدّتي وذلك اللحن الجنوبيّ القديم الذي سمعتها تشدو به في جنازة والدي".

يتنهد، تتغضن ملامحه مجدّدًا ويتهّدج صوته "متعبٌ، متعبٌ جدًا أن يبدأ الإنسان حياته من جديد..".

(صورة والده لدى بناء بيتهم الجديد في سجد بعد التحرير)

فوضى الضاحية المُحبّبة
"البيت الثاني الذي تغرّبت عنه، هو منزل عائلتي في بئر العبد، هذا البيت الذي اشتريناه بعد انتقالنا من الشياح في التسعينات ومع بداية زحف الإسمنت إلى المنطقة الّتي كانت مُزنّرة بالبساتين واللون الأخضر، أحبّبت هذا البيت الذي يُشابه عمرانه عمران البيوت البيروتيّة بغرفها الواسعة وأرضيتها الملوّنة. وعندما عُدت من فرنسا منهيًّا تعليمي الجامعيّ، عُدت إليه وقرّرت أن أنقل مكتبتي وأوّسعها كتكملةٍ لمكتبة أبي (المؤلفة من 10,000 كتاب) الّتي جمّعها طيلة سنوات التغريبة، والّتي كانت تضمّ إلى جانب الكتب العربيّة والروايات، خمسة آلاف كتاب باللغة الفرنسيّة اشتراها والدي سنة 1984 من مواطنٍ لبنانيّ يهوديّ كان في صدّد الهجرة بعدما هدّدته إحدى الميليشيات بحرق مكتبته في وادي أبو جميل"، يقول ناصر الدين.

يستذكر ناصر الدين إحدى ذكرياته مع هذا البيت في حرب تموز العام 2006، بالقول: "عندما تهجّرنا في العام 2006، قال لنا أحدهم أن بيتنا قد دُمّر، وكان لدي شعورٌ غامرٌ بأن البيت لم يصبه مكروه، وبالفعل نزلت إليه للتأكد وأصبت في توقعي. وكان لا بد أن أجد دليلًا لإقناع والدي بأن البيت لم يُهدم فوقفت أمام المكتبة المؤلفة من عشرة آلاف كتاب، وتذكرت تمرينًا كنت قد مارسته سابقًا كترفٍ ذهني، وهو أن انتقي من مكتبةٍ مُهدّدة بالحرق كتابًا واحدًا، فما كان مني إلا أن تناولت كتاب "خطط جبل عامل"، عندما رآه والدي لحظتها انفرجت أساريره".

يُخبرنا أنّه عندما كان يُغادر البيت والمُسيّرة الإسرائيليّة تُحلق فوق البيت لحظتها، وجد أن سيارةً قد توقفت في عرض الشارع، مغلقةً الطريق على سيارته، وبعدما حاول الجميع إيجاد صاحبها قال أنّه ركنها بهذه الطريقة لـ "يتونس بحضور شخصٍ آخر في الشارع". يُعلّق ناصر الدين بالقول: "هذا دائمًا ما أتذكره عن الضاحيّة، أتذكّر فوضاها وغرابتها المُحبّبة"..

عندما ظنّ أن "جلده سميك"
عن البيت الثالث، يوجز لنا ناصر الدين سيرته قائلًا: "هو بيتي الذي اخترت أن أقطن فيه، هو بيتي الذي جمعت فيه 20,000 ألف كتاب، ولما كُنت قد قرّرت ألا أتركه، أنا الذي كنت قد اعتقدت دائمًا أنني أرفض أن أتغرب مجدّدًا وأهجر مكتبتي، وأهجر ذاكرتي حيث مشى ابني أوّل مرّة وضحكنا ورسمنا، وأن جلدي صار سميكًا. ضعفت وتركته بعدما طلب مني أبنائي أن نهرب مع اشتداد القصف على الضاحية الجنوبيّة والذي طاول الشياح". يُتابع: "تركته، أنا الذي كنت أظنّ، أنني إذا فقدت مكتبتي الّتي قضيت فيها نصف حياتي، سأُجنّ. البيوت تشعر باليُتم أيضًا ونحن نشعر بأننا فقدنا شيئًا عزيزًا علينا، ليست بالحجارة وحسب".

نسأله، هل هناك جدوى من العودة؟ 

يُجيب قائلًا: "الحتميّ أننا سنعود، هذا ما أعرفه. لكن هل العودة مُجديّة؟ لا أعرف، لكن صعبٌ علينا أن نُعيد بناء كل شيءٍ من جديد، صعبٌ علينا أن نُعيد صوّغ حياتنا وترتيبها، ولا أدري كم سنستمر على هذا الحال..".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها