(الصورة للباحة الأماميّة لمنزل أحمد مراد)
"التغريبة" كمسلسل لبنانيّ طويل
"هل تريدين أن أحكي لك عن تغريبة الفتى الذي كان في الخامسة من عمره، أم عن ذاكرة الرجل الذي بلغ الثانية والثمانين؟". متموضعًا أمام خلفيةٍ تُظهر مبانٍ متسامقة من عمران الأشرفيّة الحديث، يقصّ لنا مراد بلهجةٍ تتذبذب بين الفصحى و"العيترونيّة"، سيرة الضيعة الجنوبيّة المحلية وزوال عمرانها في زمنٍ قياسيّ وتبدّل أطوارها في الثمانين سنة الماضيّة. هو الذي شهد منذ أيامٍ قليلة وحسب، الإبادة العمرانيّة الّتي ارتكبها الجيش الإسرائيليّ بحقّ حيّ سكنيّ كاملٍ يضمّ منزله.
يقول: "في العام 1948، كان عمري 5 سنوات، أتذكّر أول زعيقٍ اسمعه في حياتي. صوت جدّي يقول "قوموا اهربوا.. طيارة أم كامل القلطة فوقنا.. طلعوا على كرم الزيتون"، تحملني أُمّي متأبطةً إياي تحت ذراعها، وتركض بي، بعد فترةٍ من التغريبة الأولى نعود إلى البيت الذي ظلّ جدّي يحرسه في غيابنا. بعد هذه العودة بأسبوعٍ واحد، تدخل العصابات الصهيونيّة إلى الشريط الحدوديّ صوب حولا وميس وعيترون، وكان يبدو أنّهم باقين ومصرّين على اقتحامهم هذا واحتلال الأراضي، نهرب مُجدّدًا، هذه المرّة نأخذ بقراتنا و"لَكَن" الخبز ونهرب إلى وعر كونين"، يُعلّق ضاحكًا: "وهذه الحلقة الأولى من المسلسل اللّبنانيّ الطويل". إذ "تكرّر هروبنا هذا في العام 1957، وعاد وتكرّر في السّتينات والسّبعينات، فأي ذاكرةٍ بالضبط تُريدين؟".
نسأله، وماذا عن البيت؟
يُجيب: "البيت! بيتنا الأوّل تدمّر في الزلزال في العام 1956 وعمّرناه، وتدمّر للمرّة الثانيّة في العام 2006 وأعدنا تشييده بالدم واللحم الحيّ، وللمرّة الثالثة تدمّر البيت برمته، سُويّ بالأرض، لكن أساساته ومداميكه لا تزال موجودةً هنا في ذاكرتي، ولن تُمحى". يقول مُراد قوله هذا، مُتابعًا: "في العامّ 1982 تبدّل كل شيء، قاومنا، وتحرّرنا مع تأسيس جبهة المقاومة الوطنيّة "جمول"، وبعد التحرير عُدنا، وبعد العام 2006 عُدنا، ومع الانهيار الاقتصاديّ عُدّت بصورةٍ نهائيّة إلى الضيعة، أنا الذي قطعت عهدًا على نفسي ألّا أتقاعد من مهنة الطبّ بعد 55 سنّة على ممارستها، وما دُمت أمشي على ثلاث: قدماي وعُكازي. فتحت في منزلي الذي كان قد هُدم مرتين في وقتها، عيادةً لطبّ الأطفال والأمراض الرئويّة ولم أرضى بأتعابٍ كالّتي يفرضها الأطباء، آمنت أنّ مهمتي ورسالتي تكمن في علاج الناس، وامتهنت إلى جانب عملي الزراعة والكتابة. فعندما أكون في الأرض ويتصل مريض، أهرع إلى بيتي الذي يبعد دقيقتين عن البستان، بثياب العمل وأُعالج مرضاي، كان بيتي هو العيادة والأرض ومكتبي للكتابة. أما اليوم فراح البيت". تتحدر من عينه دمعةٌ سرعان ما يُخفيها.
(زيتونة البيت)
عيترون: الضيعة إذ قرأت
نسأله، لماذا اخترت العودة إلى البيت الذي هُدم مرتين، وإلى عيترون الريف وأنت الطبيب القادر على الاستقرار في المدينة وإيجاد فرصك فيها؟
يُجيب: "ما الحُبّ إلّا للحبيب الأوّل، وأنا مُتقمص هذا المبدأ، والحبّ لدي لمسقط رأسي، ليس لحجره وزيتونه وحسب، إنما لناسه". يُكمل مراد: "كانت عيترون ضيعة يقطنها فلاحون كأي ضيعةٍ ريفيّة، وكانت القرى والبلدات والمدن الفلسطينيّة أقرب إلينا من صيدا وبيروت وطرابلس. نحن أولاد فلاحين وأولاد فقراء، ولمّا كانت عيترون مشهورةً بزراعة التبغ، فلقمتنا الّتي كنا نأكلها بيدينا كانت مُنكّهة بنكهة ورقة التبغ، إذًا عشنا المرّ وتحمّلناه وأحببناه، نحن من خلقنا الفرص لأنفسنا". مستذكرًا يقول إنّه: "وفي العام 1953 كان أوّل قرار اتخذه أوّل تنظيمٍ للحزب الشيوعيّ في عيترون، هو إنهاء الأميّة ومكافحتها داخل المنظمة، وأنا نفسي كان عمري 10 سنوات وأعمل في المنظمة في إعداد الشاي والقهوة للرفاق، وفيما كان الرفيق أبو سهيل، يُقيم دورةً لمحو الأميّة للرفاق الأوائل كُنت أُقدّم لهم القهوة وأصغي للشرح من بعيد، وهكذا تعلّمت القراءة والكتابة". وكما مراد كان هناك من المشتاقين للتثقيف، يُخبرنا أنّه وفي ذلك الوقت "كان يصل إلى عيترون رزمة اشتراك بجريدة الأخبار الأسبوعيّة، وكان يصل نحو 100 عدد باسم أبي، وكان ساعي البريد يوصل الرزمة هذه إليّ كل يوم خميس لأنقلها نفسي إليه لتوزيعها إلى المشتركين، أما المفارقة أننا كنا نسدّد بدل الإشتراك سنويًّا بإرسال تبغٍ عربيّ مفروم إلى الجريدة أو زيتون أو زيت، متمسكين بهذه الوسيلة الوحيدة للتثقيف". يُتابع مستنتجًا: "إذا عيترون نهضت أمامنا، فالأُميّ الذي تعلّم قال إن أولاده سيتعلمون، وتوالت أجيال من المثقفين والمتعلمين والناجحين، فكيف لي أن أختار سوى عيترون؟".
يستطرد مراد بشرح السّياق السّياسيّ للصراع العربيّ – الإسرائيليّ، مُشرّحًا الهزائم العربيّة المتلاحقة من 1948 لحينه "لأن مشكلتنا بالطبع هي عدونا، لكن المشكلة الأكبر مع ذاتنا، فلم نقرأ عدونا ولم نفهمه".
(جنود إسرائيليين في مدخل منزل أحمد مراد)
العودة آتيّة لا محالة
نسأله، عندما شاهدت الحارة الّتي تسكن فيها تُفجّر بكبسة زرٍّ حرفيًّا، ومعها يُفجّر بيتك الذي بنيته للمرّة الثالثة، ماذا خطر في بالك للوهلة الأولى؟
يجيب مراد خاتمًا: "أنا أضعت بلدي فماذا يعني أن يُدمّر بيتي؟ فإذا انهد البيت لا أسف على "الكواير" (حيث يتمّ إيداع الخبز لحفظه)، هل لحجارة البيت قيمة؟ كلا، البيت يعني الثقافة والكرامة والحسّ الوطنيّ بالانتماء، وبتنا نفقده تدريجيًّا". يقول مراد خاتمًا: "شاهدت صورة لجنود إسرائيليين يجلسون في باحة بيتي، لم تُحزني، لأنني أعلم أننا سنعود إلى بيتنا وضيعتنا، حتمًا سنعود وأنا الثمانيني سأعود لأبني بيتي لأولادي وأحفادي، لإحياء هذه الذاكرة لديهم. وأولى الأولويات عند ابن الجنوب والبقاع والضاحية هي العودة، هذا الهاجس الكبير، حتّى لو كانت بيوتنا رماد، أما الخوف الأكبر فهو إن طال هذا الزمن حتّى العودة، والهمّ الأعظم يتجلى في تجرؤ العدو على احتلال قرانا مرةً أخرى".
لمتابعة القصة على مواقع التواصل الاجتماعيّ: يوتيوب، انستغرام، فايسبوك.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها