تقول الناطقة باسم المفوضيّة السّامية لشؤون اللاجئين، دلال حرب، في حديثها ل"المدن" إنّه " ومنذ تشرين الأوّل العام 2023، حدّدت المفوضيّة، أكثر من 45,000 لاجئ تمّ نزوحهم، بما في ذلك 34,000 منذ 23 أيلول الفائت. وتُقدّر المفوضيّة أنّ ما لا يقلّ عن 340,000 لاجئ سوريّ كانوا يقيمون في المناطق الأكثر تضررًا من الأعمال العدائيّة. الحاجات الأكثر إلحاحًا الآن تشمل الوصول إلى ملاجئ آمنة، وتوفير المواد الإغاثيّة الأساسيّة مثل الفرشات، البطانيات، المصابيح الشمسيّة، أدوات المطبخ – وهذه احتياجات فورية – وكذلك الرعاية الصحية، المساعدات النقدية، خدمات الحماية، بما في ذلك حماية الأطفال، وخدمات العنف القائم على النوع الاجتماعي (GBV)، والدعم النفسيّ والاجتماعيّ".
وإن كانت المفوضيّة تعمل، مع شركائها الإنسانيين والسّلطات اللّبنانيّة لإيجاد ملاجئ آمنة على وجه السّرعة لأولئك الذين بقوا بلا مأوى – مع الإشارة إلى أن اللاجئين يُعانون من صعوبة في إيجاد مأوى إما بسبب غلاء الأسعار أو رفض دور الإيواء استقبالهم، فلا تُنكر حرب أن "أعضاء فريق المفوضية – ومعظمهم لبنانيون قد نزحوا أو تأثروا شخصيًا بالعدوان – يبقون في أماكنهم ويواصلون تقديم الدعم، ويبذلون قصارى جهدهم لمساعدة الأشخاص الذين هم في حاجة ماسة". مؤكدّة أن "الاحتياجات الإنسانية تتزايد بسرعة – ونحن بحاجة ماسة إلى التمويل للاستجابة بشكلٍ مناسب. وبينما كنا نستعد لهذا السّيناريو الأسوأ منذ 23 أيلول، زدنا استجابتنا الإنسانيّة بشكلٍ كبير، إلّا أن مواردنا الحاليّة لا تكفي لمساعدة جميع المحتاجين. النداء العاجل بين الوكالات للبنان يهدف إلى جمع 425.7 مليون دولار لتقديم المساعدات المنقذة للحياة لأكثر من مليون شخص. يُقدر نصيب المفوضية من هذا النداء بحوالي 111 مليون دولار".
من النزوح إلى اللجوء
وحتّى منتصف شهر تشرين الأوّل الجاري، بلغ عدد اللاجئين السّوريين الذين اضطروا للهرب من لبنان إلى سوريا، حوالى 254 ألف شخص، وفق آخر إحصاءٍ للمكتب التنفيذيّ التابع لـ "نظام الأسد" في محافظة دمشق. ومن اللجوء إلى النزوح، هكذا قلبت الحرب الإسرائيليّة على لبنان، السّمة الّتي كان تعتري طبيعة النزوح بين لبنان وسوريا على امتداد الأعوام السّابقة، على اعتبارها أُحادية الاتجاه (أي أن السّوريين هم فقط من يلجأون إلى لبنان). فعندما حدث النزوح في كلا الاتجاهين، بدأت هذه الطبيعة وما يرافقها من سرديات سياسيّة بالانقلاب، فاللاجئون السّوريون الذين نشدوا الأمان في لبنان في يوم من الأيام أصبحوا يرون بلدهم اليوم آمنًا، على الرغم من أن الأمان في بلدهم هشٌّ ومؤقت. وهذه العودة الّتي يصفها الكثيرون بأنّها "نزوحٌ عكسيّ" ليست خيارًا طوعيًّا بل اضطرار، حيث يواجه هؤلاء اللاجئون وضعًا أكثر خطورة في سوريا.
الاعتقال والتجنيد
منذ نهاية أيلول الفائت، وثقت الشبكة السّوريّة لحقوق الإنسان حالات اعتقال وإخفاء قسريّ لما لا يقلّ عن 17 شخصًا عادوا من لبنان، منذ أواخر أيلول الفائت، بينهم 5 حالات في إدلب و4 في السّويداء. وفقًا لتقرير الشبكة، يتعرض العائدون للاعتقال على حواجز مؤقتة تُقام على طرق العودة إلى سوريا أو بعد استدعائهم إلى مراكز الإيواء بحجة "تسوية أوضاعهم". أحد الأمثلة على ذلك هو اعتقال الشاب شادي الشرتح في 7 تشرين الأوّل الجاري، عند معبر الدبوسية الحدوديّ بمحافظة حمص، بعد عودته من لبنان. وقد اقتيد الشاب إلى جهة ٍمجهولة، ولم يسمح له بالتواصل مع ذويه أو محاميه. وبحسب تقرير أصدره مركز "جسور" للدراسات، فإن الملاحقة الأمنيّة والتجنيد الإجباري يشكلان أكبر مخاوف الذكور العائدين إلى سوريا. فيما يضطر هؤلاء لإرسال أسرهم إلى سوريا وبالبقاء في لبنان لمواجهة مصيرهم الصعب تحت النيران الإسرائيليّة.
ورغم إصدار مرسوم عفو عام رئاسي في أيلول الماضي يشمل الفارين من الخدمة العسكرية قبل تاريخ 22 أيلول 2024، فإن معظم الشبان السوريين في لبنان، المتخلّفين عن الخدمة العسكرية، وفق تقاريرٍ حقوقيّة، لا يثقون بنفاذ هذا المرسوم الذي ينصّ على إعطائهم مهلة 4 أشهر لتسوية أوضاعهم والالتحاق بالجيش، ويخشون من اقتيادهم على الحواجز العسكريّة فور وصولهم إلى البلاد.
ووفق ما يُشير مراقبون حقوقيون فإن مخاطر عودة اللاجئين إلى مناطق النظام في سوريا – من الناحية السّياسيّة – تتجلى في اتجاهين رئيسيين؛ الأوّل هو الخوف الذي يعتري السّوريين، وخاصة الذكور، من العودة إلى البلاد نتيجة ملاحقة النظام الأمنيّة وابتزازهم لتسوية أوضاعهم المتعلقة بالتجنيد الإجباريّ. أما الاتجاه الثاني فيكمن في الضرّر الذي يلحق بالسّوريين نتيجة استغلال النظام لحالة النزوح لتقديم نفسه كراعٍ للاجئين، بهدف الاستفادة من المساعدات الدوليّة الموجهة لهم. فقد أعلنت الولايات المتحدة عن تخصيص حوالي 160 مليون دولار لدعم النازحين داخل لبنان وأولئك العائدين إلى سوريا، في محاولة من النظام للاستفادة من هذه المساعدات لتعزيز صورته والدفع نحو إعادة تأهيله دوليًّا.
كما لبنان هو الشمال السّوريّ
أما اللاجئون الذين اضطروا للعودة إلى سوريا وتحديدًا إلى الشمال السّوريّ فيواجهون احتمال القصف اليومي، حيث لا يكاد يمر يوم دون سقوط قتلى أو جرحى جراء الغارات الجويّة الّتي تشنّها القوّات الروسيّة على مناطق نفوذ المعارضة. فعلى سبيل المثال، قُتل 10 سوريين وأصيب ما لا يقل عن 30 آخرين في غارة روسية استهدفت ورشة لتصنيع الأثاث قرب مدينة إدلب، الأسبوع الفائت. وهذا القصف ليس استثناءً، بل يأتي ضمن حملة مستمرة من التصعيد العسكريّ في الشمال السوريّ، حيث تتركز الضربات الجويّة والقصف المدفعيّ في مناطق تخضع لسيطرة الفصائل المعارضة. ويحذر الدفاع المدني من أن التصعيد العسكريّ على شمال غربي سوريا ينذر بكارثة إنسانيّة جديدة، داعيًّا المجتمع الدوليّ والأمم المتحدة وكافة المنظمات الحقوقيّة إلى الوقوف "بحزمٍ" إلى جانب المدنيين والعمّال الإنسانيين.
أما الحرب في لبنان والقصف في سوريا جعل اللاجئين السوريين عالقين بين خطرين لا يمكن الهروب منهما. بعض اللاجئين الذين قرروا البقاء في لبنان يعيشون في ظروف مأسويّة، حيث يواجهون انعدام الأمن الغذائي والخدمات الأساسية. وفقًا لتقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن حوالي 80 بالمئة من اللاجئين السّوريين في لبنان يعانون من انعدام الأمن الغذائيّ و30 بالمئة بالمئة منهم مهددون بالتشرد.
والحال أن هذا الوضع المأساويّ لا يعكس سوى تداخل الصراعات الإقليميّة والدوليّة وتفاقم معاناة اللاجئين السوريين. بين لبنان الذي لم يعد ملاذًا آمنًا وبين سوريا التي لا تزال مسرحًا للصراعات المسلّحة، ويجد هؤلاء اللاجئون أنفسهم في مأزقٍ يصعب الخروج منه. ومن جانب آخر، تعكس حالة النزوح المتكررة بين سوريا ولبنان أزمة العلاقة المتشابكة بين البلدين. حيث لم يعد النزوح مقتصرًا على السّوريّين، بل بدأ اللبنانيون أنفسهم يواجهون وضعًا مشابهًا لما عاناه السوريون قبل سنوات. هذه الديناميات الجديدة كشفت عن هشاشة الحدود بين البلدين، وهشاشة الاستتباب الأمنيّ الذي كانت كل السّرديات السّياسيّة المحليّة والدوليّة تُعوّل عليه.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها