إن كان ملف اللاجئين السّوريّين، قد حُيّد هنيهة من الزمن، بالتّوازي مع اشتعال الجبهة الجنوبيّة بين حزب الله والجانب الإسرائيليّ، إلا أنّه ومن غير شكّ، لا يزال أحد أكثر الملفات سخونةً التّي تؤرق لبنان الرسميّ والشعبيّ في آنٍ معًا؛ والتّي بدورها اتخذت طابعًا انحداريًّا لجهة أوضاع اللاجئين في لبنان منذ بداية العام الحاليّ حتّى حينه، كما هي باقي الأزمات التّي لحقت الشارع اللّبنانيّ. وفي جديد الأزمات التّي طرأت على هذا المسار الانحداريّ، هو التّقليص التّدريجيّ في تمويل المشاريع الإنسانيّة المختلفة المُخصّصة للاجئين، الأمر الذي من شأنه تعميق أزمتهم الوجوديّة والمعيشيّة.
تخفيض مخصّصات الاستشفاء
بتاريخ 11 كانون الأوّل الجاري، أعلنت المفوضيّة السّاميّة لشؤون اللاجئين UNHCR، تخفيض مساهماتها جزئيًّا من الفاتورة الاستشفائيّة للاجئين. وهذا القرار قد جاء بالتّوازيّ مع تقليصها (هي وبرنامج الأغذية العالميّ WFP) لحجم المساعدات التّي تقدمها ابتداءً من العام المقبل 2024، وذلك بسبب النّقص في التّمويل الدوليّ (الدولة المانحة)، بنسبة 32 بالمئة، أي الحفاظ على تقديم المساعدات لحوالى 190 ألف أسرة لاجئة مُسجلة فقط، أي 62 بالمئة من مجموع اللاجئين من جميع الجنسيات الخاضعة لولاية المفوضيّة. ودعت الأخيرة، الدول المانحة إلى تمويل المزيد من المشاريع خدمةً للهدف الإنسانيّ القاضي بمساعدة اللاجئين على التّعايش والاستمراريّة في وضعهم الاستثنائي في دول الشتات وتحديدًا لبنان (راجع "المدن").
وأما التّغييرات على البرنامج الاستشفائي المقترحة والتّي يسري مفعولها ابتداءً من الأول من كانون الثاني 2024، والتّي أُبلغ اللاجئون المسجلون فقط بها، عبر رسالة نصيّة على تطبيق "واتساب" من المفوضيّة قد جاءت على الشكل التّالي:
- عند الدخول إلى المستشفى، يساهم الأشخاص المعروفون لدى المفوضيّة بنسبة 30 بالمئة من فاتورة الاستشفاء، بالإضافة إلى المبلغ الأوليّ الذي هو 100 دولار أميركيّ. وعلى سبيل المثال، إذا كان إجمالي فاتورة القبول هو 1000 دولار أميركيّ، فسيدفع اللاجئ مبلغًا مبدئيًّا قدره 100 دولار أميركيّ + 270 دولارًا أميركيًا (30 بالمئة من المبلغ المتبقي وهو 900 دولار أميركيّ). وهذا يعني أن المريض يدفع 370 دولارًا أميركيًّا وتدفع المفوضيّة 630 دولارًا أميركيًّا أي 70 بالمئة، من 900 دولار أميركيّ.
- سيتمّ إلغاء أولويّة تغطيّة الحالات الطبيّة التّي لا تشكل خطرًا وشيكًا على الحياة أو الأطراف.
- سيتمّ تخفيض الدعم للحالات الطبيّة عالية التكلفة.
- ستوفر المفوضيّة تغطية الرعاية الصحّية فقط في المستشفيات المتعاقدة. ولن يكون هناك أي تغطية للمرضى الذين تلقوا العلاج في مستشفى من خارج شبكة المستشفيات المتعاقدة مع المفوضيّة حتى في حالات الطوارئ المنقذة للحياة.
- أما بالنّسبة لدعم الولادة فتبقى التّغطيّة بنسبة 50 بالمئة من التّكلفة الإجماليّة.
لكن، وبهذه التّخفيضات التّي تطال المساهمات الإنسانيّة لدعم أكثر الفئات هشاشة في لبنان والمتمثلة باللاجئين (90 بالمئة منهم ما دون خطّ الفقر)، تنبثق المعضلة التّي تترتب على التّهديد المستجدّ على الأمن الصحيّ والاستشفائيّ، إذا ما أخذنا بالاعتبار تعرض اللاجئين لظروف عيش صعبة في المساكن والخيم غير المجهزة للعيش الطويل فيها، ناهيك بالنظام الغذائيّ غير السّليم، الأمر الذي يجعلهم أكثر عرضة للأمراض والأوبئة والمسرطنات. ولما كانت المفوضيّة قد أشارت إلى "المدن"، أن "التّغييرات الحاليّة هي بسبب الموارد التّمويليّة المحدودة" مع إدراكها لمستوى الصعوبة التّي سيواجهها اللاجئون، خصوصًا أن الاحتياجات لا تزال على حالها مع محدوديّة فرص كسب العيش، وبالتّالي فإن لا ليونة قد توفرها المفوضيّة بظلّ هذا الوضع التمويليّ الحرج. وبذلك "لن تتمكن المفوضيّة من دعم الأكثر ضعفًا في تغطيّة جزء من احتياجاتهم الأساسيّة للبقاء إلا من خلال تحديد الأولويات، مع الحفاظ على أعلى مستويات المساعدة قدر الإمكان في ظلّ قيود التّمويل".
برامج استشفائيّة متنوّعة
وعلى الرغم من كونها المنظمة الأكثر شيوعًا في صفوف اللاجئين الذين يتوافدون إليها بغية الحصول على الدعم والمساعدة إجمالًا وخصوصًا الاستشفائيّة، إلا أن المفوضيّة ليست الجهة الوحيدة التّي تُقدم المساندة الطبيّة والصحيّة، فإلى جانب العشرات من المنظمات المحليّة الإنسانيّة والخيريّة، تعمل كل من منظمتي أطباء بلا حدود MSF والجمعيّة الطبيّة السّوريّة الأميركيّة SAMS، بصورة أساسيّة وفعّالة، للمساهمة في الدعم الصحّي للاجئين.
إذ تعمل أطباء بلا حدود، ومنذ عام 2008 موفرةً الرعاية الصحيّة المجانيّة للفئات الضعيفة على امتداد مراكزها في جميع أنحاء البلاد (7 مراكز، تضم طواقم أطباء بلا حدود في لبنان، أكثر من 700 موظف، وتوفر الفرق حوالى 150,000 استشارة طبية كل عام)، لكن ومع تأزم الوضع اللّبنانيّ وتفجير المرفأ، زاد الضغط على المنظمة التّي كان 100 بالمئة من المقبلين إلى الرعاية فيها من اللاجئين، بسبب إقبال اللّبنانيين المتزايد. ولا تطلب المنظمة من اللاجئين أي تصاريح إقامة أو تسجيل لدى أي لجنة كي يتلقوا المساعدة، المتمثلة بخدمات رعاية صحيّة أساسية شاملة، التّي تشمل الرعاية الصحّيّة الإنجابيّة والرعاية الصحّيّة النفسيّة وعلاج الأمراض غير المعديّة والتّطعيمات الروتينيّة للأطفال في جميع أنحاء البلاد. أما في الحالات الحرجة للمرضى الذين يحتاجون إلى رعاية مستشفيات، تغطي MSF تكاليف الإحالة، بما في ذلك الولادات والحالات المتعلقة بالأمراض المزمنة.
الجمعيّة الطبيّة السّورية الأميركيّة SAMS هي منظمة إغاثة طبيّة عالمّية غير ربحيّة تعمل في الخطوط الأمامية للإغاثة من الأزمات في سوريا، وكذلك في البلدان المجاورة، مثل لبنان. وتهدف إلى توفير الرعاية الطبية والعلاج للمرضى المحتاجين. وفي لبنان، تدير SAMS برامج إغاثة طبيّة متعدّدة، تتراوح من الرعاية الأولية والصحة الإنجابية إلى الدعم النفسي والاجتماعي ورعاية الأسنان. تستهدف برامج الإغاثة الطبية التابعة لـ SAMS في لبنان الأفراد الضعفاء - بما في ذلك اللاجئين السّوريّين والفلسطينيين والمجتمعات المضيفة المحرومة - حيث توفر لهم رعاية كريمة وعالية الجودة بإجماليّ 15 دولاراً للمعاينة (وغالبًا مجانًا). وبدلاً من وجود مهمات طبّية تركز على الاحتياجات الطبية العامة، فإن البعثات الطبية التابعة لـSAMS متخصصة في تلبية الاحتياجات التي تحددها المنظمة غير الحكومية بأنها الأكثر طلبًا من قبل أولئك الذين تساعدهم.
واقع استشفائيّ مقلّق
لكن يبقى السّؤال، مع الأخذ بالاعتبار الأعداد وأماكن انتشار اللاجئين السّوريّين في لبنان، هل هذه المنظمات وبأعمالها الإنسانيّة قادرة على تلبيّة كافة متطلبات اللاجئين السّوريّين الاستشفائيّة والصحيّة؟ يرى مراقبون إنسانيون وحقوقيون، أنه وبالرغم من نيّة المنظمات الإنسانيّة مساعدة اللاجئين، إلى أن الأزمات المعيشيّة والاقتصاديّة التّي يرزح تحتها هؤلاء، تجعل من الصعوبة اعتبار أن التّغطية الصحيّة تشمل الجميع، بل هي في الواقع تشمل جزءاً منهم.
العقبة الكبرى في سبيل توفير أي رعاية صحيّة شاملة لجميع اللاجئين، هو التّخفيض المزمن في التّمويل الذي يصاحبه تردي أوضاع اللاجئين تدريجيًّا، وكذلك تمركز غالبيّة المراكز الطبيّة في المدن الرئيسيّة، ما يحول دون إمكانيّة شطر لا يُستهان به من اللاجئين الوصول إليها، أكان لارتفاع تكاليف المواصلات أو مخافة التّوقيف على الحواجز العسكريّة. والعامل الأخير وحده، أسهم في إحجام أعداد ضخمة من اللاجئين عن الاستشفاء (منذ بداية الحملات الأمنيّة الأخيرة) مخافة التّوقيف أو التّرحيل، وهذا ما قد أشارت إليه "المدن" في أحد تقاريرها السّابقة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها