يتساءل كثيرون عن الأسباب الحقيقية خلف تصاعد موجة الهجرة غير النظامية في لبنان على طول الساحل الشمالي، الذي يصل حتى آخر نقطة بعكار، في العريضة، الفاصلة مع الحدود البحرية السورية.
قضية "قوارب الموت"، تتجاوز المأساة الحقيقية لمئات المهاجرين اللبنانيين الذين تدفعهم السلطات لاتخاذ خيارات خطيرة، والموت فيها حاضر جدًا. ثمة سؤال سياسي يتقدم، مع بلوغ موسم الهجرة شمالًا نحو أوروبا ذروته منذ شهرين، رغم كل الإجراءات القاسية التي تتخذها بعض السلطات الأوروبية بحق المهاجرين، وفي طليعتها اليونان.
وتشير معلومات ميدانية لـ"المدن" في عكار، أن ما لا يقل عن 15 شابًا مهاجرًا من أبنائها يوجدون في السجون اليونان، يتعرضون لشتى أنواع الانتهاكات والتنكيل بعد إلقاء القبض عليهم لدى إنقاذ مراكبهم المتجهة إلى إيطاليا، وتوجه إليهم اتهامات الاتجار بالبشر والتهريب أو العمل كقباطنة ومساعدة القبطان لنقل المهاجرين اللبنانيين إلى أوروبا.
لا هجرة بلا سوريين
صباح اليوم السبت، انتشرت أنباء عن انطلاق مركب هجرة ضخم من شواطئ المنية على متنه ما لا يقل عن 250 مهاجراً، بينهم سوريون وفلسطينيون، ولبنانيون معظمهم من عكار.
ويرى أبناء عكار أن تعداد القوارب المهاجرة من شواطئهم وتمكنها من تجاوز المياه الإقليمية رغم وجود الرادارات التابعة للقوات البحرية للجيش، صار تفصيلًا. فالقاعدة الجديدة راهنًا، أقله حتى نهاية شهر أيلول، هو أن لا تمر ليلة بلا انطلاق مركب على الأقل وثلاثة على الأكثر من نقاط بحرية شمالية متعددة، وعلى متنها العشرات من السوريين والفلسطينيين واللبنانيين.
ومحور هذه الرحلات، قاعدة أساسية: لا ينطلق أي مركب هجرة غير نظامية بلا مهاجرين سوريين بالدرجة الأولى، ويستحسن وجود فلسطينيين ولو قلة، كونهما ضمانة دخول اللبنانيين كمهاجرين إلى أوروبا، لأن عددًا من دولها، وعلى رأسها اليونان، لا تعترف بحق اللبنانيين باللجوء لأنهم ليسوا بحالة حرب.
وتتحدث معلومات من مصادر عدة موثوقة لـ"المدن"، أن معظم المهاجرين السوريين عبر السواحل الشمالية، ليسوا من النازحين السوريين، بل هم يقيمون بالأصل في سوريا، ويعبرون بأفواج نحو الأراضي اللبنانية عبر المعابر البرية غير الشرعية، محملين بالمال ومستلزمات الرحلة.
يقول بعض شهود العيان على رحلات الهجرة الناشطة في عكار: "يكاد لا يشكل اللاجئون السوريون في لبنان سوى 5% من السوريين المهاجرين بهذه الرحلات. لأن معظمهم يأتون من سوريا، ولولاهم لا يستمر سوق الهجرة بهذا الزخم والنشاط. وكمية الأموال بيدهم، ساهمت برفع المهربين لثمن الرحلة على كل رأس حيث يتراوح بين 5 آلاف و7 آلاف دولار، أي بعض العائلات الآتية من سوريا تسدد ما لا يقل عن 40 ألف دولار للهجرة نحو أوروبا".
أحد ذوي المهاجرين اللبنانيين (يتحفظ عن ذكر اسمه)، يقول لـ"المدن": "خرج ابني برحلة قبل نحو شهر، ودفع نصف المبلغ المطلوب للمهرب مقابل مساعدة القبطان بقيادة المركب، وكان معه عشرات السوريين القادمين من سوريا ودفعوا على رأس كل منهم 6 آلاف دولار".
تسهيلات أمنية!
يتناقل مهربون وسماسرة في عكار أخبارًا رصدتها "المدن" عن عروضات تنافسية يقدموها للسوريين القادمين من سوريا، كونهم زبائن "دسمين بالمال" وفق تعبير بعضهم. ويتحدثون عن تسهيلات أمنية سورية يحصلون عليها لعبور الحدود، بغية دخول لبنان والهجرة من شواطئه نحو أوروبا بظل التدابير الأمنية السورية المشددة على الشواطئ السورية.
وهنا، يطرأ السؤال السياسي: هل يستفيد النظام السوري من "تسهيل" عبور هؤلاء للهجرة إلى أوروبا عبر لبنان؟
الجواب البديهي قد يكون "نعم". خصوصًا بظل تشدد السلطات التركية مع المهاجرين السوريين، وعدم سماحها لعبورهم إلى أوروبا. وتصاعد أخيرًا ما يشبه موجة هجرة ثانية -بعد الموجة الأولى في 2015- لآلاف اللاجئين السوريين من تركيا إلى أوروبا، خوفًا من إعادتهم إلى سوريا من قبل السلطات التركية.
شمال لبنان.. وجهة مفضلة
من الجانب السوري، تتحدث مصادر موثوقة لـ"المدن"، أن معظم السوريين الذين يتوجهون خلسة إلى شمال لبنان للهجرة بالقوارب إلى أوروبا، أغلبهم من مناطق الجنوب السوري المحاذية للحدود اللبنانية مثل درعا، وكذلك من ريف دمشق وحمص.
وينجذب هؤلاء للهجرة إلى أوروبا عبر لبنان وليس تركيا، لأن العبور من الشمال السوري إلى تركيا يتطلب مبالغ كبيرة بالدولار، تضاف إلى مبالغ ضخمة يسددونها للمهربين بشمال غرب تركيا للعبور نحو أوروبا إما بحرًا أو برًا أو عبر النهر.
أما هجرة السوريين من شمالي لبنان إلى أوروبا، تبدو تكاليفها أقل، وإن بنسب متفاوتة. وتقول معلومات "المدن" إن السوريين الذين يدخلون لبنان للهجرة غير النظامية، معظمهم لديهم إمكانيات مادية معقولة، وبعضهم يبيعون ممتلكاتهم وأثاث منازلهم للهرب من جحيم الانهيار السوري.
ومع ذلك، أضحت هجرة السوريين إلى أوروبا عبر شمالي لبنان، بمثابة تجارة غير شرعية منظمة، إذ يحصلون على تسهيلات سورية أمنية، واليد الطولى فيها، وفق المعلومات نفسها، للفرقة الرابعة التابعة للجيش السوري وهي بقيادة ماهر الأسد (شقيق بشار)، مقابل أثمان يسددونها لضباطها.
تجارة النظام
وعملياً، أضحى من الصعب الفصل بين خلفيات دوافع موجة الهجرة غير النظامية سواء من تركيا أو شمالي لبنان. ويجد مراقبون أن المستفيد الأكبر منها، هو النظام السوري، إن لجهة تخفيف وطأة مسؤولياته وعجزه عن تأمين الخدمات للسوريين عبر مؤسساته المنهارة.. أو لأن موجة اللجوء إلى أوروبا -وبظل احتدام السجال حول العودة "الطوعية" للاجئين السوريين إلى بلادهم- قد تشكل أداة ضغط سياسية بيد الأسد، لدفع الاتحاد الأوروبي للتفاوض معه.
أما المهاجرون السوريون واللبنانيون ومعهم الفلسطينيون، الذين يهربون من "جهنم" العيش في بلادهم المنهارة، فيبدو أنهم وقعوا ضحايا شبكات التهريب والسماسرة وما وراءها من أذرع سياسية وأمنية لبنانية وسورية. ويبدو أن المتوسط على موعد جديد ليكون أشبه بمقبرة جماعية، لكل من لا يفلح بالوصول إلى البر الأوروبي في رحلات تنعدم فيها تدابير السلامة والأمان.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها