وكم هو بالغ الإثارة أن تنقضي أيام الانشراحة المعنوية الجميلة هذه على خير، لعلها تكون استراحة قصيرة يلتقط فيها البعلبكي أنفاسه، مستمعًا إلى موسيقى تطغى على صوت الرصاص والقذائف، مغتطبًا بنعمة النور التّي لم تصل إليه إلا لمامًا طيلة السنة الماضية، ومتناسيًا معركته اليومية لشراء ربطة خبز وتزويد سيارته بالبنزين.
لكن هذه التمنيات لا تعدو كونها محاولات لطمس الواقع المُعاش. فالمهرجانات ببرنامجها الحالي الموجز والضعيف على خلاف تاريخها الحافل، لم تحظ بالدعاية الكافية فضلاً عن التمويل الضخم الذي اعتادت عليه، وتشويش حزب الله المتعمد باحتفالياته المتتالية، وتربصه ببسط هيمنته الثقافية، وإصراره على إقامة احتفالاته بالتوازي مع المهرجانات وفي موقعها-قلعة بعلبك. وهذا كله كان العائق الذي أطاح بكل آمال السّكان بالتهدئة.
مهرجانات القلق
تعود مهرجانات بعلبك الدولية -بعد سنتين من تعليق نشاطاتها عدا رمزيتها، بسبب توقفها أثناء جائحة كورونا- بأربع حفلات بين 8 و17 تموز، ببرنامج يُعد الأضعف في تاريخها وميزانية لم تتخط مئة ألف دولار، كما أشارت إحدى مصادر "المدن" المتابعة للحدث. وقد أكدت رئيسة المهرجانات نايلة دو فريج سابقًا في بيان لها أن الحدث "في هذه الأوقات التي يشهد فيها لبنان أزمات متتالية، يمثّل تحدياً وشكلاً من أشكال المقاومة الثقافيّة". وأضافت أن الجمهور يعود "إلى أدراج معبد باخوس، بعدما استقطبت نسختا المهرجان الافتراضيتان أكثر من 17 مليون مشاهَدَة"، على حدّ قولها.
واللافت أن لجنة المهرجانات كشفت عن أن مساهمة الدولة في تغطية نفقات المهرجانات كانت صفرًا. وارتكز التمويل على مساهمات من القطاع الخاص، في حين أن بعض المصارف التّي كانت تساهم سنويًا امتنعت هذا العام عن الدفع.
وفي ظلّ أزمة الكهرباء التّي تشهدها منطقة بعلبك والجوار تولت الجمعية اللبنانية للدراسات إضاءة محيط القلعة بدءاً من موقف السيارات حتى المدخل عبر ألواح الطاقة الشمسية ومولدات خاصة. فيما طوقت القوى الأمنية محيط القلعة طيلة الافتتاحية وبعدها. وعلى خلاف السنوات الماضية، اقتصرت الدعاية والتغطية الإعلامية المحلية والدولية، على وسائل إعلامية محدودة. كما بثت مباشرةً الافتتاحية عبر شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال.
وتحضيرًا للحفل نُصبت أكشاك للمأكولات السريعة والمشروبات في نطاق القلعة. فيما لم تلحظ نسبة إقبال لافتة مقارنةً بالسنوات الماضية. فلم يتجاوز حضور الافتتاح أربعة آلاف شخص، من أهالي وسياح فضلاً عن جهات رسمية بارزة، اقتصرت على مسؤولي المنطقة وبعض الوزراء ونواب معدودين. وقد تراوحت أسعار تذاكر الحفلات بين 300 و900 ألف ليرة، بينما كانت تترواوح سابقًا بين 20 و100 ألف ليرة. ويذكر أن مهرجانات بيت الدين قد أعلنت سابقًا أن حفلاتها مجانية.
حوادث أمنية
لكن على الرغم من كل التشديدات التّي أقامتها القوى الأمنية لتفادي أي حوادث أمنية، تداول ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي وقوع سرقات عدّة سيارات من موقف القلعة، ليلة الافتتاح 8 تموز. وذكر أن المشتكين الذين سرقت سياراتهم مكثوا ساعات في المخفر لإستطلاع نشراتهم الأمنية بدل محاولة التحقيق في السرقات.
وقد أوضح محافظ بعلبك- الهرمل بشير خضر في بيانه أن عملية سرقة واحدة حصلت بالفعل لسيارة أحد رواد المهرجان، مشيرًا إلى "أن صاحب السيارة بقي لوقت متأخر بعد الحفل في أحد المقاهي قبل أن يغادر ويجد أن سيارته سرقت، علماً أن القوى الأمنية قد بقيت لفترة بعد انتهاء الحفل. لذا يرجح أن تكون عملية السرقة قد تمت بعد مغادرة القوى الأمنية محيط القلعة، وأثناء تواجد صاحب السيارة في المقهى. وشهدت المقاهي والمطاعم المجاورة، مشادات كلامية وخلافات تطور بعضها إلى اعتداءات جسدية حسبما أشار أحد الحاضرين لـ"المدن". وذلك على خلفية امتناع بعض المطاعم والمقاهي عن تقديم المشروبات الروحية للبنانيين وحصرها بالسّياح الأجانب. وهذا ما أثار استهجان البعض.
وإلى جانب هذه الحوادث المتفرقة وقبل بداية الحفل الافتتاحي، وقعت مشادة كلامية بين الناشطة نعمت بدر الدين ووزير الاتصالات في حكومة تصريف الأعمال جوني قرم، على خلفية زيادة أسعار خدمات شركتي الاتصالات. وتدخل على حد قول الناشطة وزير الإعلام زياد مكاري طالبًا فض المشادة، مما تسبب بجوّ من التوتر أثناء الحفل.
تشويش حزب الله
والمفارقة كانت أنه قبل ساعة واحدة، عشية افتتاح المهرجانات، أقام حزب الله احتفالًا له في ملعب بعلبك البلدي الذي يبعد نحو كيلومترين إلى ثلاث من محيط القلعة، فأثار ذلك حفيظة بعض الأهالي. والاحتفال الحزبي، بأعداده الضخمة ومواكبه، تسبب بازدحام مروري وتشويش المهرجان الذي عوّل عليه السّكان منذ شهور، وبنوا آمالهم على موسم سياحي واعد في المدينة المأزومة، وانتعاشة اقتصادية باستقطاب السّياح. لكن المهرجانات تحولت حدثًا هامشيًا قياسًا على تغطية الإعلام احتفالية حزب الله التّي أثارت جدلاً في كافة المناطق. ولم يكتفِ حزب الله بتشويش افتتاح المهرجان، بل وقرر إقامة احتفاليته الأربعينية في القلعة، متجاوزًا واقع انشغالها بمهرجانات سياحية. ونشر دعوته التّي حددت الاحتفال في 15 تموز، أي قبل يوم واحد من آخر أيام المهرجانات. وهكذا وضع اللجنة تحت ضغط الأمر الواقع الذي فُرض عليها لإزالة تجهيزاتها موقتًا، محتكرًا القلعة ومانعًا السواح والزائرين من دخولها.
وفرض حزب الله ثقافته الأحادية وإقامة مهرجاناته الحزبية في الأملاك العامة، وما تخلفه من أضرار مادية فيها، لم يحظ بمساءلة من معنيين حرصوا على إقامة مهرجانات فنية في وقت إحياء الحزب مهرجانه العقائدي في حرم الصرح التاريخي. وللمفارقة راجت موجات سخرية من المهرجان المزمع إقامته في معبد باخوس- إله الخمر. ودارت التساؤلات عن الدافع الذي جعل حزب الله يقيم أربعينيته في القلعة.
وتحت شعار "بعلبك وقلعتها للناس مش للأحزاب" استنكرت حملة "لحقي" في بيان لها على منصات التواصل الاجتماعي، مشيرةً إلى عدم قبولها "إقامة حفل حزبي سياسي في قلعة بعلبك، المعلم السياحي والإرث الثقافي الجامع، وقبل ساعات قليلة من بدء مهرجانات بعلبك الدولية".
أمل محبط
حاول الشباب والأهالي في مدينة بعلبك مرارًا إثبات أن مدينتهم تستحق الاهتمام، بوصفها مدينة عريقة تحفل بتراث عالمي، لا منطقة محاصرة، وبؤرة للتسيب والفلتان الأمني والجرائم والمخدرات. ورغم كل الإهمال والتهميش المتراكم على مدى عقود، لا يزال البعلبكيون يتخبطون في دوامة من الأمل بانعاش مدينتهم وإعادتها إلى خريطة المدن الثقافية والسّياحية. ولا شكّ في أن هيمنة حزب الله تتحكم بكافة مفاصل الحياة السّياسيّة والاجتماعية والاقتصادية، وصولاً إلى الثقافية. وهذا يشكل إعدامًا علنيًا لطموح الأهالي بالتغيير، ولو اقتصر الحال على مهرجان دولي ممول.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها