في آخر شارع الحمراء الرئيسي، وتحديداً عند تقاطع شارعي التنوخيين والكويت، في رأس بيروت، ترتفع على مبنى العقار الرقم 2154 الحديث، جدارية فنية معبِّرة يظهر فيها رجل أشيب الشعر مع أوانٍ نحاسية.
مهنة عائلية
هذه الجدارية - وقد تبدو لكثيرين مجرّد لوحة من نوع فنون الشارع الهادف لتزيين الأبنية والمنظر العام، ورُفعت عنها الستارة مساء يوم الجمعة في 12 شهر تموز الجاري - تعيش بين ألوانها وخطوطها حكاية مهنة وحرفة، شهد عليها آباؤنا وأجدادنا واندثرت مع الوقت، لتصبح ذكرى وتراثاً لمعاصريها.
هي مهنة تبييض الأواني النحاسية التي اشتهرت بها عائلات الصُنّاع والحرف في القدم، وتحديداً العائلات البيروتية والطرابلسية. ويشرح المهندس ياسر نور الدين، مهندس المشروع وتطويره، أن الرّجل المرسوم في اللوحة تنتمي ملامحه إلى آل شهاب، إحدى العائلات البيروتية التي عمل أفرادها في مهنة المبيّض، المهمة جداً لما تتطلبه من جهد وعناية وفن فريد لصعوبتها.
رمل ونار وقصدير
من لم يسمع بهذه المهنة التقليدية من قبل، يمكن القول إنها كانت منتشرة في المدن الكبرى، وفي الأرياف التي كان يقصدها مبيّضون جوالون، ينصبون لحرفتهم في خراجها كير (آتون النار) وسواه من وسائل الحرفة. وكانت محال الحلويات، التي تتفاخر بتقديم حلوياتها في المدن التقليدية على صواني نحاسية كبيرة، أكثر من يحتاج لهذه المهنة ومحترفيها. فالطبخ في الأواني النحاسية على الفحم والحطب مباشرةً ليس صحياً، لأنه يؤدي الى اسوداد هذه الأواني من داخلها. لذلك كان مزاولو المهنة يقومون بمعالجة أواني النحاس، بتحميتها على نار الكير لتنظيفها من الصدأ ومن طبقة السخام العالقة في داخلها، فيضيفون إليها مادة شبيهة بالقصدير فضية اللون، لحمايتها بعد معالجتها بالرمل والنار.
إرث عائلي محدّث
لم تعد هذه المهنة موجودة كسواها من المهن والحرف التقليدية، التي اختفت مع توالي الأيام، بعدما ظهرت مواد حديثة تعالج النحاس في البيوت بسرعة وسهولة، فلم يعد الناس في حاجة إلى المبيضين الذين انقرضوا وانقرضت مهنتهم. لذا اهتم المهندس نور الدين باستذكارهم مع الحرفة القديمة في هذا العمل الفني.
أما عن موقع الجدارية واختيار العقار الرقم 2154 لنصبها، فيوضح نورالدين: "العائلة التي مثلنا ملامح رجالها بملامح الرجل الذي يظهر في اللوحة، كانت تقطن في المبنى السكني القديم الذي حلّ مكانه المبنى الذي يحمل الرقم 2154. وكانت العائلة تتخذ من الطبقة الأرضية مشغلاً لحرفتها؛ وكان المارة يشاهدون مزاولة عبد الرزاق شهاب مهنته.
وبسبب تصدع المبنى وتراجع حاله، أُزيل وشيّد البناء الحديث مكانه، لكن مع الحفاظ على روحه وروح من سكنوه، بواسطة إضافة هذه اللوحة إلى جداره، وإبقاء أبناء عائلة شهاب في المبنى الجديد. وهذا تشديداً على ضرورة بقاء الإنسان في أرضه، وعدم مغادرتها إلى مناطق أخرى، كما فعلت كثرة من سكان بيروت.
لتطوير المشروع، بحث نورالدين عن أشخاص يرسمون الغرافيتي على الجدران، فعثر على جمعية "أحلى فوضى" التي كانت لها مشاريع مماثلة، فشاركهم فكرة اللوحة وهدفها، وبدأوا تطوير العمل معاً بترحيب من بلدية بيروت، التي سرّعت العمل وزودته التراخيص اللازمة، نظراً للبعد التراثي الذي يحمله المشروع المقترح.
يوناني و"أحلى فوضى"
من جهته تواصل فريق جمعية "أحلى فوضى"، وبالتحديد فريق ArtOfChange الذي يهتم بالمشاريع الفنيّة، مع فنانين عدة، فاختاروا الفنان Simple G اليوناني لتنفيذها.
تشرح إيمان عسّاف، رئيسة الجمعية الفنية، أن الهدف الأساسي من أي مشروع فني تبادر به الجمعية، هو تأمين مساحات وفرص للفنّانين للإبداع في لبنان والعالم. فيُستقطب بذلك فنانون عالميون إلى لبنان ليتشاركوا مع فنانين لبنانيين، ويُرسل فنانون لبنانيون إلى الخارج لتوسيع خبراتهم وتشجيعهم عالمياً.
ويوضح الرسام اليوناني Simple G لـ"المدن" أن اختياره للمشاركة في هذا المشروع أتى من باب اهتمامه بالرسوم التي تملك بعداً تاريخياً وثقافياً عريقاً. ويُذكر أن هذه الجدارية هي أطول عمل يقوم بتنفيذه حتى الآن (120 متراً)، واستغرق العمل عليها مدة ثلاثة أيام. ويشرح simple G أن السبب الكامن وراء تركيز الأواني على اليدين، هو الإضاءة على الفعل أو المهنة التي تقوم بها الشّخصية المستلهمة في الجدارية.
التراث حيّاً
وعن رأي أبناء عبد الرزاق شهاب، عبّر خليل عن إعجابه الكبير بهذا العمل الرائع الذي يكرّم والده وعمّه وأقربائه، الذين زاولوا هذه المهنة بشغف. ويشارك خليل الحضور فرحته لرؤية جزء من طفولته مكرماً في أكثر الشوارع ازدحاماً في العاصمة، ويقول: "الصورة تتحدث عن نفسها. أرى عمي ووالدي في هذه الجدارية التي ذكرتني بصعوبة الحرفة التي مارساها، وبضرورة تخليدها".
يعود المهندس نور الدين إلى التأكيد على أهمية تشجيع الفن، الذي يهدف إلى إحداث تغييرات إيجابية في البيئة الاجتماعية، وإلى تشجيع تخليد التراث والمحافظة عليه. وهو يوجه دعوة لمطوري العقارات يطلب فيها الحفاظ على الروح التي تسكن المباني القديمة، وتُستبدل بمبانٍ حديثة، بإضافة بعض الروح إليها من خلال أعمال مشابهة.
أخيراً يركّز نورالدين على أهمية تكريم المهن التي لم يكرّمها التاريخ سابقاً، وعلى تشجيع الطاقات الشبابية للتعبير عن نفسها بمزج مواهبها ومشاركاتها مع أصحاب الخبرات الفنية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها