الإثنين 2024/10/07

آخر تحديث: 15:29 (بيروت)

لا محبة كاذبة بل مسؤولية صادقة

الإثنين 2024/10/07
لا محبة كاذبة بل مسؤولية صادقة
وقف لغة التخوين والحقد والكره هو هدف أساس اليوم (Getty)
increase حجم الخط decrease

لم يعد أمر التفاوت التكنولوجي السحيق بين محور الممانعة وبين العدو الإسرائيلي، ومن يقف خلفه، طي الكتمان. ولم يعد مجرد احتمال قد يكون صائبًا أو مخطئًا، خصوصًا بعد أن أصبح واقعًا محقّقًا. ففي حين كانت الأجهزة الأمنية، والحزبية، والذباب والجيوش الالكترونية المحسوبة على محور الممانعة مشغولة باستخدام التكنولوجيا لملاحقة الأشخاص بسبب آرائهم، أو إعجابهم برأي مخالف، أو مشاركتهم لمقال يحمل وجهة نظر نقيضة، والإمعان في تخوينهم ورمي تهم العمالة عليهم يميناً ويساراً، وتعبيد الطريق أمام عمليات الاقتصاص المباشر والجسدي منهم.. انطلاقًا من ممارسة قمعيّة لا تميّز بين الآراء السياسية وبين التحريضية المباشرة، بل اعتبارها ممارسة تصبّ مباشرة في معركة مواجهة العدو، ولو زيفًا، علمًا أن الآراء السياسية لا تقدّم ولا تؤخّر، لأنها صادرة عن مجموعة أشخاص لا صفة حزبية ولا تنظيمية ولا سياسية لهم، ولا يقرّرون ولا يؤثّرون في الميدان.

يمكن القول اليوم إن تلك الممارسات والحملات لم تكن تصبّ إلا في خدمة هذا العدو نفسه الذي تزعم مقاومته، سواء بشكل مباشر أم بشكل غير مباشر. أولًا، من خلال ضرب كل ممارسة ديموقراطية تقوّي المجتمعات المحيطة بالأراضي المحتلة أكثر مما تقوّضها، ناهيك عن أنها تعزّز كل ممارسة قمعيّة تصل حدّ الممارسة الفاشيّة التي أعادت استنفار مجموع التوترات الداخلية؛ ثانيًا، من خلال تشتيت الانتباه والانشغال والانهماك بالقمع والترهيب، في حين كان العدو يستفيد من هذه التكنولوجيا ومن هذا التشتّت ليصبّ الزيت على نار الخلافات والمناوشات الداخلية، ويوظّف كل شيء لزيادة بنك معلوماته. فالحالتان كانتا تفيدان العدو أكثر مما تضرانه، سواء بشكل مباشر أم بشكل غير مباشر. إذ أن الإمعان في التكسير المجتمعي، من خلال إثارة النعرات والفتن، هو السلاح الأعتى الذي يستخدمه أي عدو لفرط التعاضد المجتمعي، ولو الشكلي، عند أي خصم، وذلك بالتوازي مع انشغاله في تحديد بنك معلوماته وأماكن غاراته، وتكثيفها.

لقد كثّفت هذه الممارسة الشعور بالعداء بين اللبنانيين خلال كل السنوات السابقة، وهو ما أجّج لغة التخوين من الطرف الآخر أيضًا، على الرغم من أنها لغة لا تشكّل الخطورة نفسها، لأنها لم تكن تستند إلى ترسانة عسكرية وإلى لائحة تصفيات كالتي شاهدناها في السابق، أو التي نشاهدها اليوم، خصوصًا في اليومين الأخيرين.

وعلى الرغم من ذلك، لم يعد الكلام والتوصيف السابق يجدي نفعًا، بقدر ما يتوجّب الكلام عن الحاضر، وعن المستقبل القريب، إن كان من إمكانية لأي مستقبل. إذ أصبح من الضروري اليوم العمل على مستوى آخر، وتحمّل المسؤوليات ولو على العاتق الفردي، ناهيك عن العاتق الجماعاتي والحزبي. خصوصًا وأننا لسنا على وهم أن الجماعات اللبنانية تحبّ بعضها بعضًا، بمعزل عن حملات التضامن التي شهدناها في الأيام الأخيرة ومع بداية تكثيف الاعتداءات على لبنان عمومًا، وعلى الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية خصوصًا. لا يمكن لأحد أن يتوهّم أن إمكانية محبة الجماعات اللبنانية لبعضها البعض هي حالة ممكنة في لبنان، لا في السابق ولا في الوقت الحالي، بل هو ضرب من اليوتوبيا والتكاذب التي يلجأ البعض إليها للتخفيف من هول ما يجري، وللتخفيف من حدّة المأساة التي نعيشها، وللتخفيف من شدة الظلام الدامس الذي بات يهيمن على أي نظرة عند أي لبناني، وللتهرّب من المسؤوليات السياسية. ولذلك، ولأن الواقعة قد وقعت، ولأن ما يقوم العدو به ميدانيًا أصبح من الصعب تفاديه، لا بل هناك شبه استحالة لذلك، لا بد من اعتماد منهجية مغايرة، منهجية لا تتطلّب محبة كاذبة بقدر ما تنبني على مسؤولية صادقة. مسؤولية وقف خطاب التخوين والحقد والضغينة، في هذه اللحظات الحرجة تحديدًا. فإحدى أهم الرهانات التي يراهن العدو عليها، ناهيك عن قدرته المستمرة على التدمير وعلى الإبادة، هو تحويل الجماعات اللبنانية إلى صراع واقتتال طائفي عمل على زرع واشعال فتيله حين عمد إلى هذا النوع من التهجير الكثيف والمركّز من المناطق الشيعية حصرًا.

إن وقف لغة التخوين والحقد والكره هو هدف أساس اليوم، ناهيك عن المحاولات المستمرة والضرورية لوقف الحرب، وهذا ما يفترض أن تأخذه مختلف الجماعات، والسياسية خصوصًا، على عاتقها. ليس تفاديًا للمواجهة والكلام السياسي، ولا تحايلًا عليه، لأنه مستحيل أيضًا، سيّما وأن الكلام والرأي السياسي المسؤول أكثر من مطلوب اليوم للبحث عن مخارج، بل في مغبة وقف هذا الفتيل الذي بدأ بالاشتعال، والذي سيؤدي، عاجلًا أم آجلًا، ومع طول مدة الحرب، إلى أمكنة لن تحمد عقباها. أمكنة تريح العدو أكثر مما تؤزمه، أمكنة يراهن العدو عليها لأن ستكون الضربة القاضية لما تبقى من دولة لبنانية.

انطلاقًا من هذه الوضعية الخطرة، بات لزامًا على القوى السياسية أن تتحمل مسؤوليتها من خلال اجراء تعميمات حازمة تنهي وترفع الغطاء عن أي مُطلق للغة الكره والتخوين والاتهام والتحريض، ومن يجاهر بها، وتطلق يد القضاء للتعامل مع هؤلاء الأشخاص على أساس إثارة النعرات والفتن، وإلا فنحن أمام ورطة كبيرة جدًا قد تحوّل ما تبقى من لبنان، خصوصًا في أمكنة النزوح، إلى مواجهات ستحولّها أيضًا، عاجلًا أم آجلاً، إلى رماد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها