الإثنين 2021/07/26

آخر تحديث: 13:57 (بيروت)

إشكاليات التحقيق في جريمة المرفأ

إشكاليات التحقيق في جريمة المرفأ
قضية تفجير المرفأ قضية وطنية، لا طائفية ولا فئوية (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

في نظام متخلف تتصارع فيه الطوائف على مراكز القوة السياسية والإدارية والأمنية، وينتمي كل منها إلى محور خارجي، وتختلف أهدافها العقدية بصورة عميقة، وتمتنع الاستقلالية والانتظام على قضاءاتها (إذ ليس لها من قضاء واحد)، وتنتفي المحاسبة الجادة في مؤسساتها إلا محاسبة الضعفاء، وتُطمس فيها قضايا الفساد بسحر ساحر، لا يمكن للمرء أن يطمئن إلى أي محكمة ولو كان رئيسها قديساً أو ولياً من ذوي الكرامات. ومن هنا تأتي إشكاليات التحقيق في جريمة المرفأ؛ وكلما عُيّن محقق عدلي أيده بعضهم وشكّ فيه آخرون، لأن الكل يستهدف الكل، ونخشى أن يظل الأمر على حاله من الدوران، حتى يصاب الناس بالغثيان ويسقطوا مغشياً عليهم.

ويمكن ملاحظة إشكاليات أربع في هذه القضية: إشكالية المحقق، وإشكالية الخاضعين للتحقيق، وإشكالية اختصاص المحكمة، وإشكالية من يدّعون أنهم يمثلون أهل شهداء المرفأ.

إشكالية المحقق
لا ثقة بالمنظومة الحاكمة. هذا أمر يكاد يُطْبق عليه كل اللبنانيين وكثير من الدول الأجنبية؛ والافتقار إلى الثقة بالحكم يمتد إلى القضاء، لأنه غير مستقل وقضاته معيّنون، عيّنتهم السلطة السياسية الفاسدة، وتقيلهم أو تنقلهم إلى مراكز أخرى السلطة الفاسدة نفسها، فهم مرتهنون غالباً لها، أو مضطرون إلى إرضائها في صورة أو في أخرى، وحسبنا قرينة ما جرى في التشكيلات القضائية، وما صنعته المدعية العامة في جبل لبنان. ونستثني عدداً من القضاة الشرفاء الذين لا يخضعون إلا لضمائرهم، وهؤلاء قلّما يبلغون المناصب القضائية العليا، وربما حوربوا.

ولنقلها بدقة أكبر، القضاة تابعون بعامة لأمراء الطوائف، وعليهم الوفاء لهم، والاستجابة لمطالبهم، أو على الأقل عدم إصدار أحكام تزعجهم، فإذا نُظرت قضية قضائية ذات بعد سياسي، وانتمى الناظر فيها إلى إحدى الطوائف، ارتابت الطوائف الأخرى به، فكيف إذا كان المتهمون السياسيون فيها كلهم من طائفة غير طائفة القاضي، مع أن في طائفته من لا يقلّون اشتراكاً في العمل الذي استدعى نشوء القضية، وربما كانوا أكثر ضلوعاً فيه من سائر المتهمين أو من أكثرهم؟

إن هذا ما حدث في قضية انفجار المرفأ: ادّعى المحقق العدلي، مثلاً، على رئيس حكومة مستقيلة تهمته الوحيدة أنه علم بوجود نترات الأمنيوم قبل أيام من الانفجار، وقيل إنه أرسل أحد معاونيه العسكريين لاستجلاء الأمر، فاتصل به هذا المعاون ليطمئنه إلى أن المادة الموجودة في العنبر (12) إنما هي مادة زراعية لا خطر منها، ورئيس الحكومة ذاك رجل أكاديمي بعيدٌ اختصاصه من العلوم العسكرية، ويمكن أن يُخدع بسهولة في مثل هذا الأمر؛ على حين أن رئيس الجمهورية قد علم بوجود تلك المادة، وهو عسكري كبير ويعرف خطورة نترات الأمنيوم، ويعرف أن الموجود منها في المرفأ قابل للإنفجار، فلم يستدع المجلس الأعلى للدفاع ويباشر فوراً في دراسة الموضوع واقتراح الإجراءات العاجلة على مجلس الوزراء لتلافي الكارثة، بل طلب إلى أحد مساعديه الاهتمام بالأمر، فكان الإهمال والاستخفاف القاتل، ومع ذلك لم يُدّع عليه، ولم يطلب حتى الاستماع إليه في القصر الجمهوري.

ليس المراد هنا تبرئة أحد ولا إدانة أحد، فنحن لا نملك كل المعطيات القضائية لهذا الملف، لكن من حقنا أن تستنتج أن سلوك المحقق يثير الريبة بلا شك، ولاسيما أن رئيس الجمهورية يمثّل في نظامنا الطائفي المقيت إحدى الطوائف اللبنانية الكبرى، ويمثل رئيس الوزراء طائفة لبنانية كبرى أخرى، وبين التمثيلين صراع عنيف في هذا العهد. ويبدو سلوك القضاء وكأنه إعلاء لطائفةٍ وجعْل ممثلها فوق البشر، واستخفاف بطائفة أخرى واستباحة لكرامتها. فكيف إذا أُهمل الادعاء على رؤساء جمهورية سابقين، وادُّعي على وزراء من طائفة رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب وأُهمل الادعاء على وزراء من طائفة رئيس الجمهورية، وكلهم كانوا في الحكم بعد رسوّ باخرة نترات الأمنيوم إلى لبنان؟

إشكالية الخاضعين للتحقيق
ما دخلت السياسة الفاسدة في شيء إلا أصيب بعدوى الفساد. إن الوزراء المدَّعى عليهم نواب، والمجلس النيابي في دورة انعقاد استثنائية، ومعروف أنه لا يجوز ملاحقة أي نائب في هذه الحال إلا بعد استئذان المجلس نفسه. وهنا تظهر إشكالية المصطلح، مصطلح الاستئذان، وقد بنى عليه بعضهم نظرية قضائية فضفاضة هي نظرة الحصانة، وتلك ترجمة سيئة للمصطلح الفرنسي: immunité لأن الحصانة توحي معنى العصمة، وتبعث النواب على إحساس طبقي، يشبه إحساس الإقطاعيين في العصور السالفة، على حين أن المصطلح الفرنسي يوحي معنى الإعفاء، وهو يطلق على الإعفاء من الضريبة، مثلاً، وإعفاء رجال الدين، في الماضي، من المثول أمام المحاكم المدنية ومن الخدمة العسكرية، الخ. وإعفاء الدبلوماسيين وأسرهم من الخضوع لقانون البلد الذي يعملون فيه؛ وقد تطور معنى هذا المصطلح طبيّاً فصار يعني: مناعة الجسم الطبيعية أو المكتسبة، وكأن الإعفاء هو منْع إيقاع الفعل أو الأثر. وهذا الإعفاء الممنوح للنواب يسقط بانتهاء دورات الانعقاد النيابية، فغايته انتظام العمل التشريعي والرقابي للمجلس، فإذا لم يؤثر مثول النائب أمام القضاء في ذلك الانتظام لم يعد للإعفاء من مسوّغ، ووجب على المجلس أن يوافق على رفع ما سمي الحصانة بلا إبطاء، ومن غير دخول في صلب القضية.

فطلب الإذن ليس طلباً للنظر في ملف القضية، ولا طلباً للتبرئة أو الإدانة، فهذا شأن القضاء وحده، وإلا كان من حق مجلس النواب الاطلاع على ملف كل دعوى قضائية عليهم والحكم في صحتها حتى خارج الدورات النيابية، وليس الأمر كذلك. والمطالعة القانونية التي نشرتها مؤسسة "المفكرة القانونية" تبين أن هذا قريب من رأي رئيس مجلس النواب نفسه، وعدد لا بأس به من أعضاء المجلس، ولا يبدو أنه يلقى معارضة من أي نائب. بل طلب الإذن إجراء بسيط لا تحتاج الاستجابة له أو رفضه، إذا رفض، إلى أي دراسة قانونية معمقة، ولكن الإشكالية الأولى، أعنى إشكالية الارتياب بالمحقق، والبعد السياسي والطائفي لهذا الارتياب هو الذي عقّد الأمور، ولو ادَّعى المحقق على كل من يشتبه بعلاقته بموضوع النترات أو بمعرفته بوجودها، ولو لم يبد ادعاؤه تمييزياً، لسارت الأمور ببساطة وسرعة.

وما قيل في استئذان مجلس النواب يقال في استئذان الوزير بملاحقة أحد الموظفين العاملين في ملاك وزارته، فليس عمل الوزير أن ينتحل صفة القاضي، وأن يدرس صحة الاتهام، وأن يبرئ أو يدين، بل ينبغي أن يقتصر عمله على إمكان وقوع الضرر أو انتفائه في حال الملاحقة القضائية، كأن يكون الموظف في مهمة ويضر بها تركه لها، كملاحقته لعصابة شريرة يحتاج إنجازها وقتاً معيناً، ويفضي تركها إلى نجاة تلك العصابة وإضرارها بالمصلحة العامة أو بحقوق بعض المواطنين، أو كوجود الموظف في معركة يفضي خروجه منها إلى إضعاف الجيش أو القوة الأمنية التي يقودها أو يشارك في عملها. لكن إذا كان في عمل عادي أو في إجازة فلا مسوّغ لرفض الإذن.

والشيء نفسه يشمل الحصانات النقابية، فإذا كان المحامي، مثلاً، ذاهباً للمرافعة في المحكمة فلا يجوز منح الإذن بإيقافه، أما إذا كان في زيارة خاصة أو في نزهة، الخ. فلا مسوغ حتى لطلب الإذن بملاحقته، وإلا فذلك تمييز طبقي غير دستوري.

والحقيقة أن الحصانات كلها مخالفة للدستور، ولكل مواطن الحق في عدم الملاحقة إذا كانت ملاحقته تتسبب في ضرر عام أو خاص، كالقبض على أستاذ الجامعة أثناء المحاضرة أو الامتحانات، أو على الطبيب وهو يعالج مريضاً، أو على المهندس وهو يعالج بناء يكاد أن ينقضّ. إن منع الملاحقة يقدر بمقدار الضرر منها، وليس بوظيفة المواطن أو مقامه الاجتماعي، وما لأحد من المواطنين فضل ذاتي على مواطن آخر؛ فالكل متساوون في الحقوق والواجبات دون تفريق بينهم. ولذلك لا يبدو مقنعاً إضراب إحدى النقابات لأن عضواً من أعضائها أوقف بعد قيامه بعمل غير قانوني، وشهد الجميع عمله، ولاسيما أن هذا الإضراب ألحق الضرر بعدد كبير جداً من المواطنين. وهل إيقاف رجل أخطر من خسارة الجمع الغفير من المواطنين لحقوقهم؟ 

إشكالية اختصاص المحكمة
ونتيجة لهذا الارتياب، وتحاشياً لنتائجه، حاول المجلس النيابي الدخول في تنازع السلطات، ونظرية عدم الاختصاص. ففي الدستور مواد مبهمة تتحدث عن المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. وهي تنص على امتناع محاكمة رئيس الجمهورية في أي جريمة من الجرائم في غير هذا المجلس؛ دع أن النص ملتبس قليلاً، لأنه يحصر حق اتهام الرئيس بمجلس النواب، ويؤكد أن الرئيس يحاكم أمام المجلس الأعلى، من غير أن ينفي إمكان محاكمته في المحاكم العدلية أو الشرعية. فمثلاً لو اتهمت الرئيسَ زوجتُه بالاستيلاء على ميراثها، فهل يحاكم أمام المجلس الأعلى أم أمام المحاكم الشرعية، وهل هذه القضية تحتاج إلى قرار اتهامي من مجلس النواب يصدر بغالبية الثلثين، أم يصار عفواً إلى محاكمة الرئيس في القضاء المذهبي؟ القضية ملتبسة، أما غير الملتبس فهو أن الدستور لا يفرض محاكمة الوزراء أمام المجلس الأعلى حصراً، وهذا قد يعني أن من صلاحية القضاء العادي أو العدلي ملاحقة الوزراء. فإذا وضعت إحدى المحاكم يدها على قضية تخص أحدهم، فلا يجوز لمحكمة أخرى أن تضع يدها عليها بعد ذلك إلا بقرار قضائي أعلى. فالتذرع بالمجلس الأعلى في غير محله، وهو أمر متكلف، وإنْ هو إلا موقف دفاعي سياسي بإزاء الارتياب في المحقق.

إشكالية أهالي الشهداء
ومما يزيد الارتياب ذلك الضغط المرفوض الذي يمارسه بعض أقارب شهداء المرفأ لفرض الموافقة على ملاحقة بعض المدعى عليهم، وبصورة عنيفة وفجة ولا تخلو من سفه ومن تهديد وتخريب يقعان تحت المساءلة القانونية، ويوحيان للكثيرين أنهما موجّهان من قبل بعض الساسة أو الأجهزة. ولا دليل، على كل حال، على أن المتظاهرين مفوضون حقاً من أكثرية أولئك الأقارب، ولا أنهم جميعاً من أقاربهم. وصحيح أن أقارب الشهداء هم أكبر المتضررين من انفجار المرفأ، وان الكل يقاسمهم الأسف والحزن، لكن قضية المرفأ قضية وطنية عامة أصابت كل اللبنانيين بأضرار فادحة، ولا أحد في لبنان يريد طمس القضية إلا مرتكبو جرمها، ولهذا لا يجوز لأولئك الأقارب جعل تلك القضية قضية خاصة، وقضية شهداء فحسب، بل هي قضية وطنية شاملة، ولا يحق لأحد احتكار الكلام فيها ولا الضغط على المحققين للسير بها في الاتجاه الذي يرضيهم وحدهم أو يرضي من يحرض بعضهم. ولهذا نسوّغ مشاركة بعض الناشطين في المظاهرات المنددة بالتأخر في التحقيق، لكن غير مقبول اندساس بعض الحزبيين وعملاء الأجهزة بينهم.

وفي المقابل فإن أقارب الضحايا أنفسهم يتظاهرون تأييداً للمحقق العدلي ويعِدونه بالمساندة وبمعاقبة المدعى عليهم، قبل صدور أي حكم أو أي قرار ظني. ويستقبلهم المحقق ويقدر تأييدهم له ويعِدهم وعوداً خارجاً بعضها عن المعجم القانوني والدستوري. والأخطر من ذلك أنه يهدد بإصدار القرار الظني وبأن يترك للرأي العام أن يحكم عليه. فمنذ متى يعلن القضاة مثل هذا الإعلان، ومنذ متى يطلبون رضا الرأي العام، وهل الرأي العام على صواب دائماً؟ إن الضغط الذي يمارسه بعض أقارب الضحايا من شأنه أن يؤثّر في الحكم القضائي وأن يعرض ميزان العدل للاختلال، وإن محاولة المحقق التوكأ على المساندة الشعبية عمل سياسي بامتياز، فالمعروف أن القضاء يعمل بصمت من غير أن يعبأ بالضجيج ولا يحاول استغلاله، ولا يتشبه بالساسة في الأمور الشعبية أبداً.

النتاج
وفي النتيجة فإن الارتياب في المحقق هو مدار الأمر كله، وإن بعض المظاهرات تزيد من ذلك الارتياب وتوحي تحريضاً سياسياً وتوجيهاً للتحقيق توجيها خاصاً ليس من شأنه إحقاق الحق وكشف الحقيقة ومعاقبة الجناة. ولهذا فلا بد من إصلاح الأمر، بالشمول والحياد، والتذكير بأن قضية تفجير المرفأ قضية وطنية، لا طائفية ولا فئوية، ولا تخص الشهداء وحدهم، ولا يطلب فيها إرضاء أهلهم دون غيرهم، بل الاستجابة لمطالب الشعب كله وإقناعه بالنتيجة، وبالجزاء الذي سيناله المجرمون، وإلا فثمة مؤامرة على التحقيق، وبالتالي على الحقيقة وعلى الشعب اللبناني برمته.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها