لا يبدو أن النظام اللبناني، في وجه الهبّة الشعبية الراهنة، قادر على المواجهة بغير أدواته القديمة في الجذب والاستبعاد على الطريقة الأمنية-الطائفية، مع تراجع قدراته التعبوية المالية. ومع ذلك، فقد فرضت موجة التظاهرات الشعبية غير المسبوقة، تحدياً جدياً لقدرات أهم حرس الهيكل؛ حزب الله، والتيار العوني، في الحشد والخطاب، وكذلك مع قدرتهما على إعادة التشكل في بيئة لزجة كثيفة المطبات.
الشريك المضارب
الأزمة الاقتصادية-المالية لنظام الزبائنية الطائفية في لبنان، ما عاد ممكناً التعايش معها بعدما تكشف أن الاستمرار في تجاهلها هو عقبة في استمرار وجود النظام برمته، بشكله الراهن. قدرة هذا النظام على حفظ مستوى مرتفع من الأرباح، للأوليغارشيا المصرفية وكارتيل المستوردين الحصريين وأصحاب الوكالات، ضمن نظام الحصص "السياسية" الطائفية-الزبائنية، بات أمراً متعذراً مع استمرار التعطيل السياسي بين الأطراف المتناحرين. محاولة التيار العوني الهيمنة على كل مولدات الثروة، تحت مسمى استعادة حقوق المسيحيين، صارت تهديداً متواصلاً لشبكات الزبائنية لبقية الأفرقاء "السياسيين"، في الوقت الذي تتراجع فيه الثقة في الاقتصاد اللبناني، ومعها الوعود الدولية بتمويل بعض عجزه.
التيار العوني كان قد واصل مراكمة التسلط خلال السنوات الثلاث الماضية من عمر العهد، بفرض وجوده على كامل مفاصل الاجتماع السياسي اللبناني، كشريك مضارب وأساسي، مع رغبة علنية بطرد أفرقاء آخرين كانت قد استقرت شبكاتهم المصلحية منذ عقود. شعارات "التمثيل الحقيقي"، و"الغالبية الشعبية"، و"التيار الجارف"، و"لبنان القوي"، هي مجرد العدّة الخطابية لعملية التمدد والسيطرة. إلا أن الكعكة التي يقاتل التيار العوني على انتزاعها كانت قد بدأت طور انكماشها الحاد منذ سنوات. وتنامي العجز والمديونية، وأزمة الليرة اللبنانية، وانكماش سوق العقارات، ليست سوى التعبيرات الظاهرة عن عمق الأزمة.
كما الببغاء
المشكلة الكبرى هنا، أن التيار العوني، بطوره الباسيلي، ليس إلا تنظيماً شعبوياً، مضاداً للتعددية السياسية بطبعه، ومُنكراً على الآخرين حقهم في تمثيل قطاعات بشرية أخرى، ولو كانت من طوائف أخرى. هو الشعبوي المصعوق بوجود غيره، بوجود شارع مضاد لكامل خطابه، بوجود جماهير في الساحات لا تدعم مسيرته. لذا، وكما الببغاء، واصل التيار منذ اللحظة الأولى لنزول الناس إلى الشوارع، ترداد المانترا: هذه ذاتها مطالبنا منذ 30 عاماً، وقد سرقتموها.
الأزمة تستفحل أكثر، عندما يعيد التيار العوني توليف المطالبات الشعبية، التي يقول أن الناس قد سرقتها منه؛ بالقول إنها؛ اقرار لجان مكافحة الفساد ورفع السرية المصرفية، وتفعيل قوانين المحاسبة واستقلالية القضاء. وكأنه لا يسمع. فما يخرج من فم العوني كمطلب "سرَقَه" الحراك، ليس هو ذاته ما تهتف به الجماهير في الساحات: كلن يعني كلن.
لا شعب خارج التيار القوي، ولا من قوى سياسية حقيقية خارج تحالفاته، بالطبع مع استثناء حزب الله، امتداد التيار العوني ومشتهاه. أصوات الناس بالجمع، بالكثرة، بالتعدد، تؤرق أُذُني العهد، وتقلق منامه. ولذا، يصادر صوتها، ويدعي أبوتها، وأولويته في تسمية القضايا التي يطلبها الشارع، ولو كذباً.
حزب الله: تضخم الذات
وفي حين تبدو شعبوية التيار العوني، مقتله الرئيسي في هذه الثورة اللبنانية، يبدو أن لحزب الله أزمته الأكثر فظاعة؛ الميغالومينيا. الحزب الشمولي العقائدي الخميني، لا يستطيع رؤية ما يحدث إلا كمؤامرة. مكيدة يحيكها الصهيوني والأميركي، وشياطين أخرى أصغر. تزامُن الثورة اللبنانية مع شقيقتها العراقية، وتضعضع وضع الحزب في سوريا، هو نتاج حبكة كونية مؤامراتية، ولا يمكن إلا أن تكون كذلك.
مجسات الحزب واستخباراته تسعى للإطباق على المتآمرين، وفضح خططهم، تُعاونه في ذلك مخيلة العونيين المبتذلة. ويشي ذلك بتضخم ذات الحزب إلى حدود غير مسبوقة، بات فيها أي اعتراض مطلبي بشري، جزءاً من مؤامرة مدبرة. فائض القوة قد يرتد في لحظات كهذه إلى خوف شديد. فالذات الميغالومينية للحزب تعكس إحساسه الذاتي بـ"الأهمية المقدسة"، لشدة مركزيته وتعلقه بتصوره الذاتي عن قداسة قضيته. لا قضية خارجه، ولا ناس، ولا شعب. وهنا يلتقي الحزب والتيار؛ حزب شمولي إمامي خميني، وتيار شعبوي ماروني وقد اصطدما بالشارع؛ لا خارج خارجهما، فمن أين تدفقت هذه الحشود؟
إصرار التيار العوني على رفض الآخرين، وذاتية الحزب المتورمة بفائض سلاحه وعنفه، تلاقيا على إنكار ما يحدث في الشارع، في لحظة ينهار فيها جزء محسوس من تفاهمات ما بعد الطائف، وتنفجر فيها التناقضات بين الأوليغارشيا الحاكمة والناس. وهنا لا بد من التساؤل الأولي، والأصلي: شو في بحمص؟ ما في شي بحمص!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها