يوم قام أهالي إدلب والنازحون إليها بجمع تبرعات لدعم غزة، لم يكونوا يتصرفون خارج ما اهتدوا إليه منذ ولدوا. فدعم فلسطين نهج شعبي راسخ في سوريا، منذ مئة عام، توارثه السوريون جيلاً بعد جيل، وصولاً لمعركة غزة وما ظهر منها وفيها.
تبرعات إدلب بدأت في أول الأسابيع بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وسبقت شعوباً كثيرة. وهي لم تكن مشروطة كما كان الأمر على الدوام حينما يتعلق بفلسطين. لكن عواطف السوريين الحقيقية والمجربة تجاه فلسطين شيء، ومواقفهم تجاه قاتليهم ومشرديهم وناهبي بيوتهم وأراضيهم، شيء آخر، ينبغي وضعه في الحسبان، عند جرد حساب ما يجري في سياق الحرب على غزة.
ظهرت مواقف طائفة واسعة من السوريين تجاه حزب الله بسبب هذه المفارقة تحديداً، وهي ما كان لها أن توجد أصلا لولا التدخل الدموي للحزب في سوريا منذ 2012 لدعم النظام إلى جانب إيران.
لا يتعلق الأمر هنا بأي بعد طائفي. وقد سبق للسوريين أن آووا ونصروا اللاجئين إليهم من سكان جنوب لبنان والضاحية خلال حرب تموز 2006، وكانت صور زعيم حزب الله حسن نصرالله تعلق في بيوت الناس في حمص وحلب، من غير أن يخطر على بال أحد أن هذا الشخص ذو العمامة السوداء من طائفة أخرى. حصل ذلك في لحظة مختلفة، قبل أن يتورط هذا الحزب في دعم النظام ويوغل في الدم السوري، ويتعامل عناصره بطريقة وحشية موثقة على المنصات مع السوريين على أساس طائفي.
كان نحو 12 عاماً من هذا التدخل المستمر، كافية لتغيير كل شيء في قلوب السوريين. ولذلك لم تكن مواقف السوريين من الحزب خلال المواجهة الحالية مع إسرائيل، مفاجئة، ولا يجب أن تكون. فهي باختصار نتيجة طبيعية ومتوقعة من جيل كامل نشأ وهو لا يعرف عدواً سوى النظام ومؤيديه، وكان يسمع ويرى حزب الله وسائر الميليشيات الإيرانية، وهي تمارس حملات القصف والتجويع والقتل والتعذيب والتهجير، وهي حملات شملت ملايين السوريين كما هو معروف.
لم يدافع الحزب عن هذه الاتهامات. كما لم يفسر سبب وجود مشاهد مصورة لقادة في الحزب، ومنهم من قتل مؤخراً على يد إسرائيل، وهم يفخرون بما يقومون به ضد الشعب السوري من عمليات إلقاء للبراميل المتفجرة على المناطق السكنية، وتدمير مدن بكاملها وحصار أخرى وتجويع سكانها حتى الموت. هذه وقائع مثبته من التاريخ القريب، وهي لم تنته بعد. إذ ما زال الحزب موجوداً عسكرياً في سوريا، وهو بالطبع يقدم ذرائع مختلفة، أبرزها "محاربة التكفيريين". وهي لم تفلح في تفسير أو تبرير، قيام الحزب بقتل النساء والأطفال، وتدمير الحواضر الكبرى مثل حمص وحلب، ومحاصرة المدن حتى موت سكانها جوعاً. هذه أفعال لا علاقة لها بمحاربة الإرهاب، بل هي الإرهاب بعينه.
بطبيعة الحال، أحدث كل ذلك أثراً مدمراً على مواقف الناس، وشتت الأمة، وتلاعب بأولويات شعوبها، وبتعريف العدو في كل منها، بل وداخل كل بلد، وربما داخل كل مجتمع محلي. وظهرت لدينا مصطلحات مثل العدو القريب والعدو البعيد، أو العدو الخطير والعدو الأخطر. ولم يكن مهماً أن يتصارع كلا العدوين مع بعضهما البعض، ليمكن تغيير هذه المقاربة الجديدة.
هذا الحال كان مؤسفاً بشدة. فالمفروض أن تظل فلسطين هي قضية العرب المركزية، وهي كانت كذلك عقوداً طويلة، بل أن الانظمة العربية السابقة المتصارعة، كانت تختلف على غالبية القضايا سوى فلسطين. لكن ما حصل منذ غزو العراق عام 2003 ودخول المنطقة في هياج طائفي خطير، ثم الثورة السورية 2011، وبدء مهمة الإنقاذ الإيرانية للنظام.. منذ تلك الأوقات تغيرت الأولويات الشعبية، والسياسية، وأصبح المجال العام منقسماً بوضوح، حتى جاءت الحرب على غزة، ودخلت إيران وحزب الله إلى المشهد، ليتحول الانقسام إلى اشتباك لفظي واسع على المنصات، هو بالقطع ومن دون تردد خسارة لجميع المنخرطين فيه وسواهم بطبيعة الحال.
ولسوء الحظ أيضاً أن الانقسام الشعبي في المجال العام، واكبه انقسام بين النخب الفكرية والسياسية، على الأساس ذاته، فلم تعد هناك حدود لما يمكن أن يبلغه شتات القوة هذا، في مواجهة تحديات مصيرية لا يبدو أنها ستنتهي قريباً.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها