الثلاثاء 2024/08/06

آخر تحديث: 11:59 (بيروت)

في تفويت الحرب على غزة كمناسبة للتعلّم

الثلاثاء 2024/08/06
في تفويت الحرب على غزة كمناسبة للتعلّم
ثمة كذبة ضخمة جداً شائعة مفادها أن الجميع يعرف ما يكفي عن المسألة الفلسطينية (غيتي)
increase حجم الخط decrease
بينما تطوي الحرب على غزة شهرها العاشر، يمكن القول أن الدروس المستفادة منها شبه معدومة. لا نعني الدروس المستفادة فلسطينياً، فالفلسطينيون منقسمون بين استعصاء مركّب ومعقّد في الضفة الغربية، وحرب إبادة تقطع الأنفاس فعلياً ومجازياً في غزة. ما نعنيه هنا أن الحرب، أي حرب، هي مناسبة للتعلّم لأولئك الذين في جوارها والبعيدين من الأسباب اللصيقة باندلاعها، لأن المنطق البسيط والمبسّط يقضي بأن يدفعهم فضولهم إلى ذلك متى أظهروا انشغالاً بها، سواء كان الانشغال طوعياً أو مفروضاً بآثار الحرب في الجوار.

ثمة كذبة ضخمة جداً شائعة مفادها أن الجميع يعرف ما يكفي عن المسألة الفلسطينية، الكذبة التي يُبنى عليها وهْمُ الاكتفاء والاستغناء لدى مواظبين على التحدث في الشأن الفلسطيني. بل يتكاثر أولئك الذين يعلنون أنهم لا يريدون معرفة المزيد، بدعوى أن هذه المعرفة لا تقدم ولا تؤخر، رغم أن وجودهم "ولو نظرياً" في موقع المؤثِّر الثقافي يرتّب عليهم المعرفة لتدعيم تأثيرهم، فلا يبقى في إطار حفنة من المقولات التي تبدو جذابة وبرّاقة مؤقتاً لبعض جمهور السوشال ميديا.

بعيداً من ساحة المعركة، هناك وفرة في إعلان الانحياز "الصريح أو الموارب" لأحد طرفي الحرب، يقابلها شحّ في جعل الانحياز محرِّضاً على المعرفة. فهناك مَن يعلنون تضامناً تقليدياً مع الفلسطينيين، من دون التقدّم على صعيد مواكبة تطورات العقود الأخيرة، وهذا التضامن الأخلاقي بمعظمه لا يجيب على الكثير من أسئلة الواقع والسياسة. إنه ضمن هذا الحدّ لا يقدّم معرفة، ويخسر المعرفة الداعمة له. في المقابل، هناك مَن حمّلوا المسؤولية لحماس منذ البداية، وبالتالي فإن ما أصاب الفلسطينيين منذ عشرة شهور حتى الآن تتحمل حماس مسؤوليته، وهو تشخيص جازم لا يخطّئ هجوم السابع من أكتوبر فحسب، بل يعتبر الخطيئة أصليةً بوجود حماس، في استلهام مقلوب ممّن يكتفون بالتوقف عند كون إسرائيل خطيئة أصلية.

الانقسام موجود بين الفلسطينيين أنفسهم، ولا يُنتظر بالطبع من أي شعب أن يكون كتلة واحدة منسجمة. إلا أن انقسام أصحاب الشأن مختلف عن انقسامات في الجوار، غير ذات صلة بالانقسام الفلسطيني، بل هي كناية عن انقسامات في تلك البلدان، وأتت الحرب على غزة لتكون مناسبةً كي يستأنف هؤلاء انقسامهم الداخلي باستعارة الشأن الفلسطيني. هنا واحد من الوجوه التي تجعل المنخرطين في السجال في غنى عن معرفة الشأن الفلسطيني، بما أن الخوض فيه ليس هدفاً إلا بقدر ما يخدم السجال الحقيقي المضمر. وهذا ملمح آخر من الاستغناء عن المعرفة خارج الشأن الفلسطيني. فعلى سبيل المثال استعارةُ السوريين الشأنَ الفلسطيني للتعبير عن خلافات سورية هي بطبيعتها لا تنتج معرفة في الشأن الفلسطيني، ولا تنتج أيضاً معرفة في الشأن السوري، وفي معظم الأحوال تفسح المجال الأوسع للركاكة وتفاقُم العداء بين السوريين.

ليس الامتناع عن المعرفة في هذه الحالة مجرد عارض معهود، على نحوِ ما يُقال عادةً في هجاء العرب، وليس من التبعات الشعبوية لعصر السوشيال ميديا فحسب. إنه متعمّد تماماً. الانطلاق من الانحياز فقط وفقط، والإصرار عليه بلا التفاتٍ يميناً أو يساراً، لا يمكن فهمه إلا بمثابة إصرار على عدم المعرفة. وهي وضعية تتطلب أيضاً اصطناع خصم هشّ وتافه معرفياً، خصم لا يتطلب القضاء عليه معرفة تُذكر. وظيفة الخصم في هذا السجال هي امتناع مَن يصطنعه عن تطوير رأيه، بما أن الخصمَ الجاد المعتبر امتحانٌ وتحدٍّ مَعرفيان. نعني بذلك الخصمَ كمنظومة فكرية مجرّدة، لا المتعيِّن بشخص ما إلا بقدر تحفيزه على التفكير.

لطالما اتُهمت الأنظمةُ العربية "عن حق" بالاستثمار في القضية الفلسطينية، من أجل مآرب لا علاقة لها بفلسطين، واستخدامها اليوم من قبل أفراد "أيضاً من أجل مآرب بعيدة كلياً من التفكير في المسألة الفلسطينية" هو استخدام لا يزيد نزاهة عن تلك الأنظمة، لأنه يحرف النقاش عن موضعه الأصلي، ويستثمر في الكارثة فلا يعود لأصحابها وضحاياها حضورٌ إلا كاستعارة تخدم فكرته. هذا الاستثمار المخاتل هو، في حالة السلطات والأفراد، وسيلة لحرف النقاش فقط، بمعنى أنه لا يخدم نقاشاً آخر حتى.

بخلاف الصورة الشائعة عن الموضوع، البسيطة أو المبسّطة، نزعم أن الحرب الحالية هي مناسبة للتعلّم لمن يريد نقاشاً حقيقياً في الشأن الفلسطيني، أو ما يتصل به في الجوار. الحديث هنا بالتأكيد ليس للواقعين تحت نيران الحرب، وإنما لأولئك الذين يملكون متسعاً من الوقت والاهتمام. وإلحاح المعرفة يزداد مع مرحلة قد تكون خطيرة حقاً، لا كما دأب الخطاب القومي على القول طوال عقود خلت. تكفي على هذا الصعيد الإشارة إلى تقرير أصدرته، الجمعة، بعثة الاتحاد الأوروبي في الأراضي الفلسطينية، وينص على أن الحكومة الإسرائيلية وافقت العام 2023 على بناء ما يزيد عن 30 ألف وحدة سكنية استيطانية في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

في تفاصيل التقرير، ومعظمه يتعلق بما قبل السابع من أكتوبر 2023، أن هذا العام شهد إنشاء 26 مستوطنة عشوائية تعتزم الحكومة تشريع 15 منها. وفي شرح معنى مستوطنة عشوائية: هي البؤرة الاستيطانية التي تُبنى بلا ترخيص، إلا أن اختيار مكانها ليس عشوائياً إطلاقاً. هذه المستوطنات تحظى بكافة الخدمات وأهمها شق الطرق وتأمينها، وهناك منظمات استيطانية تشرف على اختيار موقع المستوطنة بحيث يؤدي إلى أكبر اقتطاع من أراضي الضفة، وأكبر تقطيع لأوصالها، فلا تبقى صالحة للعيش ولا تكون من ضمن "حل الدولتين".

تهجير الفلسطينيين، على نحو يفوق ما حدث العام 1948، هو سيناريو يتقدّم على الأرض قبل اندلاع الحرب الحالية، ولن يتوقف مع توقفها. والحديث عن ملايين المهجَّرين لا يتعلق بهم فقط، فلعملية التهجير أبعاد إقليمية من المرجّح أن تكون مزلزلة، وليست مجرد استعادة لعمليات التهجير العام 1948.

هذا النذير ليس وحده، فمؤخراً قُدّم في الكنيست قانون يرفض إقامة دولة فلسطينية، أي أن مسعى المستوطنين في الضفة والقدس الشرقية يجد طريقه ليصبح قانوناً ملزماً لأي حكومة مقبلة ما لم تمتلك النية والغالبية البرلمانية لإلغائه. أما على الصعيد الداخلي، فقيادات تل أبيب لم تتوقف منذ ربع قرن عن محاولة انتزاع اعتراف دولي بيهودية إسرائيل، ما يعني إقصاءً وتهميشاً بالقانون، للعرب الذي يحملون الجنسية الإسرائيلية، وتحويل الدولة اليهودية المأمولة إلى دولة فصل عنصري صريح.

جماعة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" لا يتوقفون للتفكير عند سيناريوهات من هذا القبيل، وكأن عداءهم الجذري لإسرائيل يعفيهم من مناقشة سبل واقعية لمواجهتها، وخصومهم في الطرف المقابل يتجاهلونها لأنهم يضنّون بأي تعديل على سرديتهم عن السلام الممكن الذي قوّضت حماس "منذ تأسيسها" فرصَ تحقيقه. ومن المؤكد أن ما لم يحدث خلال عشرة شهور، لن يحدث، وسيتم تفويت الحرب بوصفها دافعاً للتعلّم، وبوصفها أيضاً دافعاً للتفكير من أجل سلام حقيقي مستدام.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها