الأحد 2024/06/09

آخر تحديث: 19:47 (بيروت)

شركاء في الجريمة: الشِبولِت الألماني وإسرائيل والإبادة الجماعية

الأحد 2024/06/09
شركاء في الجريمة: الشِبولِت الألماني وإسرائيل والإبادة الجماعية
increase حجم الخط decrease
يقول كارل ماركس، وهو الابن المتمرد لأبوين يهوديَّين، في تعليق شهير: في السياسة لا يفكّر الألمان إلا بما سبق وقام به الآخرون. إلا أن تهكمه هذا في حاجة إلى إعادة نظر؛ فالألمان في أيامنا هذه يفعلون أشياء ليس في مقدور الآخرين حتى مجرّد التفكير بها. إن جميع المؤسسات الكبرى في البلاد تقريباً منخرطة في ممارسة سلوك "البلطجة" لإسكات منتقدي إسرائيل وتعقّبهم ومضايقتهم؛ فالفلسطينيون والمسلمون والشعوب الملونة واليهود المناهضون للصهيونية والكتّاب والموسيقيون والشعراء ومغنّو الراب وصانعو الأفلام وأي شخص يجرؤ على انتقاد إسرائيل أو التشكيك فيها يُوصم ب"معاداة السامية". وقد أعاد نائب المستشار الألماني روبرت هابيك، عقب السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التأكيد على النموذج الخطابي، وضبط الإيقاع العام، من خلال بيان إعلامي شديد اللهجة، أكد فيه على أن أمن إسرائيل هو جزء لا يتجزأ من وجودية ألمانيا أو كيانها، وبرّر أن "هذه العلاقة الخاصة برزت من ’المسؤولية التاريخية‘ لألمانيا، في التكفير عن المحرقة (الهولوكوست)، عبر تأسيس دولة إسرائيل، وأوضح أن ’أمن إسرائيل هو عهد قطعناه على أنفسنا‘"، وختم بالقول: "ألمانيا تعرف ذلك".

يبدو أن القليل من الألمان، إما لاحظوا أو اهتمّوا بأن كلمات هابيك قد أعفت ألمانيا عملياً من الجرائم الإسرائيلية السابقة في حق الفلسطينيين، أو أنها منحت حكومة بنيامين نتنياهو، بحكم الأمر الواقع، حقاً "سيادياً" لتعريض "أمن" الملايين من البشر للخطر، بما في ذلك الفلسطينيون الذين يكابدون الجوع والرعب في قطاع غزة والضفة الغربية، وكذلك المواطنون العرب واليهود الذين يعيشون في الداخل الإسرائيلي.

وهكذا، مباشرة بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ومع محدودية التفاعل أو المعارضة العامة، بدأت ألمانيا في ممارسة ما لا يمكن تخيّله. وتفرّق الآن شرطة مكافحة الشغب، باسم مكافحة "معاداة السامية"، المسيرات المؤيدة للفلسطينيين على نحو ممنهج، وبات إحياء ذكرى النكبة وارتداء الكوفية وعرض الأعلام والألوان الفلسطينية أموراً غير مرغوبٍ فيها، بل محظورة. وتُحظر كذلك تجمعات المواطنين اليهود الليبراليين واليساريين الذين يعارضون نتنياهو، وتسوق الشرطة تبريرات من قبيل أنه ربما يُسيء مثيرو الشغب، الذين ينحدرون من "أصول" فلسطينية، استخدام هذه التجمعات. وتفرض شركة سبرينغر (شبرينغر باللغة الألمانية) وشركات أخرى، قَسَم الولاء لإسرائيل. ولطالما زوّدت أحواض بناء السفن الألمانية إسرائيل بغواصات "يو" U مزوّدة برؤوس نووية، في حين ازدادت مبيعات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل في عام 2023 عشرة أضعاف، وحتى الجيش الألماني بات جاهزاً للدّفاع عنها، فقد أبحرت أوائل شباط/ فبراير 2024، ومن دون تفويض من البرلمان الألماني (البوندستاغ)، السفينة الحربية "هيسن" من ميناء فيلهلمسهافن، متجهةً صوب البحر الأحمر، وعلى متنها عدد غير معلوم من قوّات مشاة البحرية، التي جرى حشدها للتعامل مع تهديدات ميليشيا الحوثي في اليمن لحركة الملاحة في المنطقة.

فماذا يقول المثقفون الألمان، إذاً، عن كل هذه الاتجاهات المثيرة للقلق؟ لا شيء تقريباً! حقاً، إن جبنهم لصادم. هناك عملياً أرواح شجاعة قد تمتلك الجرأة على اتخاذ مواقف معارضة، ولكن حتى عندما يعلّق المثقفون على حرب إسرائيل على غزة، أو يتحدّثون عن مبادئ الأخلاق والسياسة، كما فعل يورغن هابرماس Jürgen Habermas، وراينر فورست Rainer Forst وآخرون قبل بضعة أشهر، فإن "تضامنهم المعلن مع إسرائيل يتجلّى كشِبولِت ألماني، منقوش بلا شك على الحجر الإسرائيلي".

إن الكلمة العبرية القديمة "شِبولِث أو شِبولِت" هي خير ما يُستدل به في هذا السياق، لأن "الشِبولِت"، كما يعلم قرّاء سفر القضاة التوراتي هو لفظة تعمل ككلمة مرور، يستعملها أتباع مجموعة أو طائفة لتمييز أنفسهم من الأعداء، وإن لزم الأمر إبادتهم، كما فعل الجلعاديون في الكتاب المقدّس مع الأفرايميين. يجمع الشِبولِت أو "الولاء لإسرائيل" بين متناقضين: الهشاشة والقوة المفرطتين، ويعمل مؤشراً عائماً مع تأثيرات تضمينية وإقصائية كاملة، حيث تُستعمل مرونته الدلالية لتحشيد أتباعه وربطهم معاً من خلال استهداف خصومهم بصفتهم غرباء وأعداء. وتبعاً لذلك، توثق مجموعة "أرشيف الصمت" ومقرها برلين، قائمة المؤسسات الألمانية، التي تتعاون على نحو فاضح مع الإبادة الجماعية الإسرائيلية، وقد غدت القائمة طويلة الآن، وتنمو باطراد. ويستمر توجيه أصابع الاتهام وإطلاق الأحكام بناءً على الشبهة، وتكثر الأعذار الواهية، وتلفّ الظلال الجامعات وغيرها من المؤسسات، التي يُفترض أنها مستنيرة وتحتكم الى المنطق، ولكن يبدو أن الأدلة والصدق والنزاهة قد أضحت في أيامنا هذه بلا قيمة.

إن الولاء لإسرائيل هو شِبولِت أو أيقونة للتنمّر، ذات تأثيرٍ مُخرسٍ أو كاتمٍ للحقيقة، وقد اكتشفتُ ذلك بنفسي، عندما تلقّيتُ رسالة من محكمة "الكنغر" سيئة الصيت، تتهمني فيها بالتعاطف مع "الإرهاب" عن طريق يوتا ألميندينغر Jutta Allmendinger، رئيسة مركز العلوم الاجتماعية في برلين، حيث عملتُ هناك أستاذاً وباحثاً مدة ربع قرن. تتهمني المحكمة في رسالتها بأنني مؤيّد سراً ل"منظّمة إرهابية" تنشر الخوف، تُعرف باسم "حماس"، ولهذا أصبحتُ معرضاً للملاحقة الجنائية، وفقاً للقانون الألماني. وقد رددتُ على ذلك برسالة استقالة، أكدتُ فيها على التحيّز المجحف للرئيسة، وهوسها بكره حماس، ودعمها غير المدروس للتعريفات الرسمية التي أقرتها الدولة ل"الإرهاب". وقد طرحتُ عليها سؤالين: تُرى لماذا صمتت رسالتُها عن أمور بغيضة، من مثل القصف الجوي المستمر، وعنف المستوطنين، والتدمير الوحشي الأرعن للمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والجامعات والخطط الإسرائيلية المجنونة لتجويع الملايين من البشر، واقتلاعهم من دون رحمة أو شفقة من أوطانهم القديمة؟ ولماذا ينكر مركز العلوم الاجتماعية على العلماء حقّهم في التحدّث بصراحة، وقول ما لا يجرؤ أحدٌ على قوله، وطرح التساؤلات حول دولةٍ وُلدت أصلًا من رماد الإبادة الجماعية، لكنها عازمة الآن عسكرياً على "التدمير المادّي كلياً أو جزئياً" ("اتفاقية الإبادة الجماعية"، المادة الثانية-ج) لشعب اقتُلع من أرضه، وترويعه على نحو دامٍ؛ هذا الشعب يُعرف بالفلسطينيين؟

لقد قرأ أكثر من مليون شخص خطاب استقالتي على منصّة "إكس" و"فيسبوك"؛ وعلّق عليه كثيرون آخرون على منصات التواصل الاجتماعي الأخرى، وتدفقت رسائل الدعم الشخصية من جميع أنحاء العالم. وفي أثناء وجودي في الصين، انتشرت رسالة استقالتي انتشاراً واسعاً. وقد أبدى العديد من الأساتذة، الذين يعيشون خارج ألمانيا، شجاعةً كبيرة، عندما دعوا الرئيسة ألميندينغر، ومركز العلوم الاجتماعية، إلى الاعتذار علناً، عن اللهجة غير العلمية، والمضمون المهين لادعاءاتها، لكنها التزمت الصّمت، كما لم تُبدِ انزعاجاً من السلوك الهمجي والإرهابي للحكومة الإسرائيلية الحالية، وقد نحا أساتذة وباحثو مركز العلوم الاجتماعية نحوها، فقد وضعوا أقلامهم جانباً، وأطبقوا شفاههم، وأغلقوا كذلك أجهزة الحاسوب المحمولة الخاصة بهم، وكفّوا أيديهم. لكن يتبادر إلى الذهن سؤال: تُرى ما هو منطقهم أو تبريرهم لصمتهم هذا؟ ربما يظّنون أنه من الأفضل عدم القيام بأيّ شيء، تفادياً للمخاطرة بالازدراء والعار، أو الطرد من العمل، أو ربما (كما تنبأ الفيلسوف الألماني المتميز كارل ياسبرز منذ فترة طويلة) كان صمتُهم هو وَهم الصّلاح للأشخاص المقتنعين بأن اعترافات آبائهم بالذنب عن جرائم الماضي، وولاءهم الذي لا جدال فيه لإسرائيل، قد يمنحانهم الغفران، أو على نحو أكثر بدائية، قد يتوافقان مع الفولكلور الألماني: أن تكون مخطئاً أفضل من أن تكون مختلفاً، واحترم قواعد "التّنسيق السياسي" واخضع لها، وكن فخوراً بكونك ألمانياً. إن ما يمنح الرّوح الطمأنينة هو عين الحقيقة.

فهم الصمت أمر بالغ الصّعوبة، ولكن ما يمكن الجزم بقوله هو إن الصمت الجبان لأحد معاهد الأبحاث المرموقة في أوروبا، يجسّد الجو العام في ألمانيا، التي أصبحت الآن في قبضة شِبولِت، الذي تعود جذوره إلى فترة حكم كونراد أديناور Konrad Adenauer في خمسينيات القرن العشرين، والتي بدورها تقود في الوقت الحاضر إلى نتائج سياسية وقانونية وأخلاقية مدمّرة. يشعر اليهود الألمان، الذين يدفعهم إيمانهم إلى إدانة إسرائيل، بالحنق، ويبدو الأمر كما لو أنهم لا ينتمون إلى دولة تطالب بالتكفير عن إبادتها لليهود في الماضي. وعلى نحو مغاير، فإن إشادة الحكومة الألمانية بموقف إسرائيل الصارم ضد "الإرهاب" و"التطرّف الإسلامي" تغذّي الدعم لحزب "البديل من أجل ألمانيا"؛ الحزب الشعبوي اليميني المتطرّف، المؤيد لإسرائيل، والمعادي للأجانب، والذي يحظى بدعم نحو 20 في المئة من الناخبين، وممثَّل الآن في 15 برلماناً من أصل البرلمانات الستة عشر في المقاطعات الألمانية، ويُلحق ضرراً هائلًا بالسمعة العالمية لألمانيا والألمان. كانت الجهود التي بذلها الجيل الأخير لتخليص البلاد من الفكر والميول الفاشية، من خلال التعبير عن الشعور بالذنب والعار، مثيرةً للإعجاب، لكن في غضون أشهر جرى التّخلي عن جميع المكاسب المرتبطة بسمعة ألمانيا على مستوى العالم، بسبب التصريحات الحمقاء بالولاء غير المشروط لإسرائيل. ومن خلال غضّ الطرف عن وحشية إسرائيل المدمّرة للذات، فإنّ الإفلاس الأخلاقي الذي جلبته ألمانيا على نفسها لا يفيد أياً من الدّولتين، والضرر الذي أحدثه الشِبولِت الألماني له عواقب قانونية، مثلما تدفع نيكاراغوا في محكمة العدل الدولية لمقاضاة ألمانيا على خلفية "تسهيل ارتكاب الإبادة الجماعية" عبر بيع أسلحة إلى إسرائيل، وقطع المعونات عن وكالة الأمم المتّحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا".

والأسوأ من ذلك كلّه، بل الأكثر مأساوية، ولكن على نحو لم يتّضح بعد، هو أن الشِبولِت الألماني يثير الشّكوك حول رواية الشرعية الكبرى للدولة الألمانية. فديباجة دستورها أو قانونها الأساسي Grundgesetz تنص على أن "الشّعب الألماني" هو أساس الجمهورية، لكن الحقيقة المؤرّقة هي أن الشِبولِت هو تذكير بما قاله دبليو جي (ماكس) سيبالد، أحد أعظم الكتاب في ألمانيا في جيل ما بعد عام 1945، عن الانتعاش الملحوظ لألمانيا بعد كوارث النصف الأول من القرن العشرين، والذي يُطلق عليه "السر المحفوظ"؛ السر القذر: في أسس الدولة الألمانية، ترقد عميقاً جثث الملايين من ضحايا الإبادة الجماعية النازية، والقصف الانتقامي الذي شنّه الحلفاء على المدن الألمانية، والذي أودى بحياة 600 ألف مدني، وترك أكثر من سبعة ملايين بلا مأوى، إلى جانب الإبادة الجماعية لشعوب الهيريرو والنّاما في مستعمرة جنوب غرب أفريقيا، وهي أول إبادة جماعية في القرن العشرين، وقد اعترف بها السياسيون الألمان مؤخراً، على مضض، ولكن حتى الآن لم تُقدَّم تعويضات لضحاياها. والآن هناك سر آخر يطفو الى السطح، بكل قذاراته، ألا وهو الإسهام في الإبادة الجماعية، حيث تختلط أسس الدولة الألمانية مجدداً بجثث الآلاف والآلاف من النساء والأطفال والرجال الفلسطينيين الأبرياء، الذين يتوقون إلى مستقبل أفضل فحسب، يحمل لهم الانعتاق من أغلال الإذلال العنصري، والظّلم الاستعماري، والتّجويع والقتل الممنهج.
(موجز لورقة بحثية نشرها المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، للكاتب الالماني البارز جون كين)

نص الورقة كاملة
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها